واجه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بشكل خاص والعلويون عامة من ظلم العباسيين وجورهم ما لا طاقة لبشر على تحمله والصبر عليه، وبلغ الاضطهاد والظلم النفسي والجسدي أقصى حدوده مما اضطرهم إلى الهروب والنجاة بأنفسهم من القتل حتى قيل في ذلك البيت المشهور:
تالله ما فعلت أمية فيهم *** معشارَ ما فعلت بنو العباسِ
وكان ممن ناله ظلم وجور الرشيد العباسي من العلويين السيد القاسم بن موسى الكاظم (عليه السلام) مع أهل بيته وبني عمومته فخرج هارباً من بطش السلطة مُتخفِّياً يجوب البلاد ولا يستقر على حال حَذِراً من عيون السلطة حتى آل به المآل إلى مدينة سورا أو صورا وهذا اسمها الآرامي وهي الآن تسمى باسمه الشريف (مدينة القاسم ع)
ولد القاسم بن الإمام موسى الكاظم سنة (150هـ) في المدينة المنورة، أمه السيدة تكتم، وتُكنّى بأُمِّ البنين وهي أمُّ الإمام الرضا (ع) والسيدة فاطمة المعصومة (ع) وقد عاصر القاسم خمسة من الخلفاء العباسيين هم: المنصور الدوانيقي، المهدي، الهادي, وهارون.
نشأ القاسم في بيت الوحي وترعرع في أحضان الإمامة وكان أبوه الإمام الكاظم يحبه حباً جمّاً وتدلنا رواية الكليني على المنزلة العظيمة التي كانت للقاسم عند أبيه الإمام حيث يقول: (كان الإمام الكاظم يحبّه حبّاً شديداً، حتّى أنّه أدخله في وصاياه، وقال في حقّه لأبي عُمارة: أُخبرك يا أبا عُمارة، أنّي خرجتُ من منزلي فأوصيتُ إلى ابني فلان ـ أي علي الرضا ـ وأشركتُ معه بنيّ في الظاهر، وأوصيته في الباطن، فأفردته وحده، ولو كان الأمر إليّ لجعلتُه ـ أي أمر الإمامة ـ في القاسم ابني؛ لحبّي إيّاه ورأفتي عليه، ولكنّ ذلك إلى الله عزّ وجل، يجعله حيث يشاء). (1)
ولا شك الإمام (عليه السلام) لا يتكلم على سبيل العاطفة الأبوية في هكذا أمور ما لم يكن القاسم مستحقاً له, كما أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) منصوص عليهم من الله جل وعلا والإمام يعلم بذلك وكلام الإمام هنا للإشارة إلى فضل القاسم ومكانته عند أهل البيت.
أما قصة خروجه من المدينة نحو العراق فقد ذكر الشيخ محمد مهدي الحائري إنها كانت بسبب سطوة الرشيد على آل أبي طالب فقال ما نصه: لمّا أشتدّ غضب الرشيد جعل يقطع الأيدي من أولاد فاطمة، ويسمل في الأعين، وبنى في الأسطوانات حتّى شرّدهم في البلدان، ومن جملتهم القاسم ابن موسى بن جعفر، أخذ جانب الشرق لعلمه أنّ هناك جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام).
ووصل القاسم إلى مدينة سورا فاستضافه زعيم المدينة لمدة ثلاثة أيام فلمّا كان اليوم الرابع طلب من الشيخ أن يجد له عملاً يرتزق منه لأن الضيف ثلاثة وما زاد على ذلك فهو صدقة، فقال له الشيخ: أختر لك عملاً. فقال له القاسم: اجعلني أسقي الماء في مجلسك ولما رأى شيخ المدينة تقواه وورعه وزهده وعبادته زوجه ابنته فولدت له بنتاً سمّاها فاطمة وعندما بلغ القاسم من العمر ثلاث وأربعين سنة، مَرِض فلما أحس بدنو الأجل باح للشيخ بنسبه العلوي فبكى الشيخ بكاء مرّاً فلما مات دفنه حيث قبره الشريف الآن. (2)
مدينة القاسم (سورا)
كانت مدينة اسمها سورا أو صورا وهو اسم آرامي قديم وقيل هو عبري وتبعد هذه المدينة حوالي 35 كيلو متر عن مدينة الحلة وحوالي 70 كيلومتراً عن مدينة كربلاء المقدسة جنوباً، وقد سمّاها ياقوت الحموي في معجم البلدان بـ (شوشه) حيث يقول: (شوشه) قرية بأرض بابل أسفلَ من حلّة بني مَزيد، بها قبر القاسم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، بالقرب منها مرقد نبي الله ذي الكفل أو حزقيل.
وقد أخطأ الحموي في ذلك فـ (شوشه) هي من نواحي الكوفة وهي تابعة للنجف الأشرف أو توابع محافظة النجف وليست في محافظة بابل.
وقد عقب الشيخ محمد حرز الدين في (مراقد المعارف) على كلام الحموي بالقول: هذا خلط منه بل اشتباه, لأنّ القبر الذي في شوشة هو قبر القاسم بن العبّاس بن موسى الكاظم (عليه السّلام)، وقد صرّح بذلك (النسّابة) ابن عنبة في كتابه (عمدة الطالب).
و(سورا) في الأصل مدينة أثرية قديمة سكنها السريانيون لخصوبة أرضها وعذوبة هوائها وكثرة الأنهار فيها والتي تتفرع من الفرات وكان أكبر هذه الأنهار نهر (سوراء) الدافق الذي ينقسم إلى نهري العلقمي وسورا فيمر الأول بالكوفة والثاني بمدينة سورا فالنيل والطفوف ثم يصل إلى واسط والبصرة وقد امتد فوق هذا النهر جسر سورا التاريخي الذي عرف أيام الفتوحات الإسلامية.
وقد جاء وصف مدينة سورا في العديد من كتب الرحالة الذين وصفوها بكثرة البساتين والنخيل والأشجار وكثرة الأنهار ومن الذين زاروها من الرحالة الإدريسي وابن حوقل الذي يعزو حفر نهر سوراء إلى زمن ملوك الطوائف الأردوانيين الأشغانيين (247ق.م/224م) (الإمبراطورية البارثية) التي خلفت الدولة السلوقية فيقول:
وفيها ــ أي في مدينة سورا ــ نهر ينسب إليها يُسمَّى (نهر سورا)، وهو أكبر أنهار الفرات، يرجع حفره إلى زمن ملوك الطوائف, إذ إنَّ مُلك الأردوان، وهم النبط، كان في السَّواد قبل مُلك فارس، ودام مُلكهم ألف سنة، وإنَّما سمُّوا نبطاً، لأنَّهم أنبطوا الأرض، وحفروا الأنهار العظام، ومنها الصراة العظمى، ونهر أبا، ونهر سورا، ونهر الملك.
وقد تقوّضت هذه الدولة على يد الإمبراطورية الساسانية وقد حكمها تسعة ملوك من ملوك الطوائف الأشغانيين الفرس كان آخرهم: (أرتابانوس الخامس (216–224 ق.م) ــ باليوناني ــ والذي استعان بالعرب للقتال معه ضد أردشير بن بابك مؤسس السلالة الساسانية (224ــ241ق.م) وهو الذي بنى (حيراً) فأنزل به من أعانه من العرب على قتال أردشير…. (3).
وتأتي أهمية مدينة سورا لموقعها الاستراتيجي المهم فهي تقع على طريق التجارة والمسافرين حيث أطلق عليها ابن حوقل لقب: المدينة المقصودة. لكثرة من يقصدها من التجار والمسافرين. ولأهميتها البالغة ولجودة أرضها وكثرة ثمارها اتخذها المزيديون مركزاً مهماً من مراكزهم مع مدينة النيل القريبة منها وقد برز منها كثير من أعلام الفكر الإسلامي ممن حمل لقب السيوري.
محمد طاهر الصفار