في السیرة الإمام الحسن العسكري
الولادة والرعاية
لقد ولد إمامنا الحسن العسكري (عليه السلام) في سنة۲۳۲هـ حيث تلقفه والده بالفرح والابتهاج، لأنه الامتداد الطبيعي للنبوة ووارث علم الأنبياء والأوصياء، فسارع الإمام الهادي إلى إجراء مراسيم الولادة كما عملها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع الحسن والحسين، فأذن في أذن الوليد اليمنى وأقام في اليسرى وحلق شعر رأسه في اليوم السابع وتصدق بوزنه فضه وعمل له العقيقة عملا بالسنة المقدسة ثم سماه بـ (الحسن) وكناه بـ (أبي محمد) وتولاه بالرعاية والتربية النبوية والآداب والحكم الشامخة فاصطنعه صناعة تحت ظل اللطف والفيض الإلهي كما تولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام)، فبرزت معالم العلم والفضيلة والحكمة على إمامنا العسكري منذ صغره.
علم الإمام الزكي
لا ترديد أن الإمام العسكري وارث علوم آبائه الأطهار، فكما انتهى علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي ومنه إلى الحسن ومنه إلى الحسين صلوات الله عليهم كذلك انتهى ذلك العلم إلى إمامنا العسكري. وفيما يلي قصص ظريفة لطيفة تحيي القلوب:
روي عن أبي حمزة نصير الخادم قال:
سمعت أبي محمد (عليه السلام) غير مرة يكلم خدامه وغيرهم بلغاتهم وفيهم روم وترك فتعجبت من ذلك وقلت في نفسي: إن الإمام ولد بالمدينة فمن أين تعلم كل هذه اللغات؟ قال:
فاقبل نحوي وقال: إن الله بين حجته من بين سائر خلقه واعطاه معرفة كل شيء فهو يعرف اللغات والأنساب والحوادث ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق.
وروي أن رجلا من محبي الإمام العسكري دخل يوما عليه وكان حكاكا للفصوص أي ينقش عليها الأسماء والآيات فقال للإمام:
يا ابن رسول الله إن الخليفة دفع إلي حجر فيروز أكبر ما يكون واحسن ما يكون وقال: انقش عليه كذا وكذا فلما وضعت عليه الحديد صار نصفين فانكسر وسوف يعاقبني الخليفة على ذلك فادع الله لي فقال الإمام:
لا خوف عليه إن شاء الله، وهدأه وقال له: سوف تنجو منها.
فانصرف هذا الرجل إلى بيته وفي اليوم التالي بعث عليه الخليفة وقال له: إن امرأتين من خواصي اختصمتا في ذلك الفص فاجعله نصفين. يقول: ففرحت كثيرا واخذتهما إلى الخليفة فأحسن إلي.
وكتب الإمام إلى أبي إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز العباسي بنحو عشرين يوما: الزم بيتك حتى يحدث الحادث فلما قتل بريحة كتب إليه: قد حدث الحادث فما تامرني؟ فكتب إليه: ليس هذا الحادث، الحادث الآخر فكان من المعتز ما كان أي موت المعتز العباسي.
وهذه القصص نتعلم منها درسا مهما وهو أن أئمتنا (عليهم السلام) لديهم علم المنايا ودقائق الأمور والحوادث وليس ذلك من الغيب الممتنع أبدا.
رسائل الإمام (عليه السلام)
لقد عين الإمام العسكري وكلاء له في الأماكن التي يتواجد فيها تيار اهل البيت (عليهم السلام) وجعل اتصال الناس به عبر هؤلاء الوكلاء وبذلك استطاع الإمام أن يحفظ القواعد الشيعية من رقابة الدولة العباسية الظالمة، واستطاع أن يكيف الذهنية على طريقة الرجوع إلى الوكلاء لكي تتهيأ الشيعة لاستقبال وكلاء الإمام المهدي من بعده.
ومن أعماله أيضا أنه (عليه السلام) كان يراسل أتباعه وأصحابه ومحبيه يرشدهم إلي السنة المحمدية ويدعوهم إلي تعميق الإيمان ويدعو لهم في قضاء حوائجهم، فمثلا يروي محمد بن الحسن بن ميمون قال: كتبت إليه أشكو الفقر ثم قلت في نفسي: أليس قد قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): الفقر معنا خير من الغنى مع غيرنا والقتل معنا خير من الحياة مع عدونا.
فرجع الجواب: إن الله عز وجل يخص أولياءنا إذا تكاثفت ذنوبهم بالفقر وقد يعفو عن كثير منهم كما حدثتك نفسك: الفقر معنا خير من الغنى مع عدونا، ونحن كهف لمن التجأ إلينا، نور لمن استبصر بنا وعصمة لمن اعتصم بنا، ومن أحبنا كان معنا في السنام الأعلى ومن انحرف عنا فإلى النار.
وواضح مدى التواضع عند أمامنا العسكري (عليه السلام) من خلال رده على رسائل محبيه ومريديه وعدم إهماله رسائلهم من أدنى الأمور إلى أكبرها وهذا قمة تلاحم القيادة مع القاعدة وأبرز ملامح النجاح.
وعن جعفر بن محمد القلانسي قال: كتب أخي محمد إلى أبي محمد (عليه السلام) وامرأته حامل مقرب أن يدعو الله أن يخلصها ويرزقه ذكرا ويسميه فكتب يدعو الله بالصلاح ويقول: رزقك الله ذكرا سويا ونعم الاسم محمد وعبد الرحمن، فولدت اثنين في بطن فسمى واحدا محمد والآخر عبد الرحمن.
وهكذا نعرف أن الإمام كان يسعى إلى تحقيق الاستقامة عند أصحابه وتأكيد سنة النبي (صلى الله عليه وآله) من خلال تجسيدها في الحياة اليومية.
الإمام العسكري والفيلسوف الكندي
إن علاقة الأئمة الهداة (عليهم السلام) مع القرآن هي الناطقية، أي أنهم ينطقون بما يحمل القرآن بين دفتيه، لأن القرآن كتاب صامت، فهم حصن القرآن يحفظون أسراره ويفسرون مراده ويدعون الناس إلى تطبيقه، وبنفس الوقت يكون القرآن ناطقا بفضل اهل البيت (عليهم السلام) فهما إذن لا يفترقان ولا يتناقضان أبدا.
ومن الحوادث المهمة في عهد الإمام العسكري (عليه السلام) محاولة الفيلسوف إسحاق الكندي في تأليف كتاب (تناقض القرآن) معيبا على كتاب الله تعالى بأن فيه تناقضات فشغل نفسه بذلك أشهرا ووصل الخبر إلى مسامع الإمام فتأثر لذلك لأنه لا يستطيع أن يصل إلى الكندي لبعد المسافة والحصار الذي ضربه حوله بني العباس فصادف يوما أن حضر عند الإمام العسكري (عليه السلام) أحد تلامذة الكندي فقال له أبو محمد (عليه السلام): أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما تشاغل فيه؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منا الاعتراض عليه؟
فقال الإمام: أعلمك كلاما تقوله له وتجعله بصيغة سؤال حتى لا يتصوره اعتراضا منك فما تقول؟
فقال التلميذ: نعم.
قال الإمام: اذهب إليه وقل له عندي مسألة أسألك عنها ثم قل له: إذا جاءك أحد وقال لك إني أفهم من كلمات وآيات القرآن فهما غير الفهم الذي أنت تستفيده منها أيجوز ذلك؟ فإنه سيقول لك: نعم يمكن ذلك، وعندئذ سوف يفهم المقصود في أن كتابه (تناقض القرآن) غير صالح لأن للقرآن عدة تفاسير ويحتمل عدة وجوه من المعاني ولا يقتصر على معنى واحد.
فذهب هذا التلميذ وفعل ما أشار به الإمام (عليه السلام) وعندما سمع الكندي هذا السؤال تفكر في نفسه ورأى أن ذلك محتملا في اللغة وسائغا فعرف أن المعاني التي دونها قد تنقض بمعاني اخرى محتملة ففهم أن مشروعه فاشل فترك الكتاب ومضى إلى أموره الاخرى.
الإمام يرشد شيعته
إن موقع الإمام من أئمة الهدى (عليه السلام) يمثل موقع النبي (صلى الله عليه وآله)، ولكنه دونه في الفضل، إذ للنبي كمال النبوة الراقي، ولكن يبقى الإمام يمارس المسؤوليات في حفظ الدين وتوجيه الناس إلى الهدى وإنقاذهم من الردى وتزكية نفوسهم وتعليمهم الحكمة التي تؤثر إيجابيا في حياتهم ومعادهم.
ولقد اتصل إمامنا الحسن العسكري (عليه السلام) بالناس اتصالا وثيقا عن كثب يتابع يومياتهم ويحل مشاكلهم ويجيب عن الأسئلة الموجهة إليه، فعمل إمامنا العسكري (عليه السلام) على ترشيد أتباعه وشيعته وعمل على أن يكونوا الطبقة المحترمة في الأمة الإسلامية يحافظ على سمعتهم مهما أمكن.
ومن ذلك ما كتبه الحسن بن طريق إلى أبي محمد (عليه السلام): إني تركت التمتع (الزواج المؤقت) ثلاثين سنة والآن أريد أن أعاود وكان في الحي امرأة وصفت لي بالجمال وكانت عاهرة فكرهتها ثم قلت في نفسي قد قال الأئمة السابقين تمتع بالفاجرة فإنك تخرجها من حرام إلى حلال، وبعث الرسالة إليه.
فجاء الجواب من الإمام: إنما تحيي سنة وتميت بدعة ولا بأس وإياك وجارتك المعروفة بالعهر (الفساد) وإن حدثتك نفسك إن آبائي قالوا: تمتع بالفاجرة فإنك تخرجها من حرام إلى حلال فهذه امرأة معروفة بالهتك وهي جارة وأخاف عليك استفاضة الخبر فيها.
فهكذا كان يربي الإمام أتباعه أن يبتعدوا عن مواطن الشبهات.