Search
Close this search box.

الصلة الخامسة في سر القنوت والتشهد والتسليم

الصلة الخامسة في سر القنوت والتشهد والتسليم

في الصلاة في فروع الدین

لا ريب في أنّ النظام التكوينيّ إنّما هو على الطاعة والهداية ، ولا مجال للعصيان والضلالة فيه ؛ لأنّ زمام كلّ موجود تكوينيّ إنّما هو بيد اللَّه سبحانه ، وهو تعالى على صراط مستقيم ، وكلّ ما كان زمامه بيد من هو على الصراط السويّ فهو مهتد البتّة ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى * ( « ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » ) * « 1 » لدلالته على الأصلين المذكورين ، وحيث إنّه لا مجال للتمرّد في التكوين يكون كلّ موجود ممكنا فهو يأتي ربّه طائعا ، كما يدلّ عليه قوله تعالى * ( « فَقالَ لَها وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » ) * « 2 » . والذي يشاهد من الضلالة والغواية فإنّما هو في التشريع ، حيث إنّ المكلَّف مختار في طيّ السبيل السويّ أو الغويّ ، وإنّما العبادة – سيّما الصلاة – قد شرّعت لتطابق النظامين ، وقد شرّع في الصلاة أحوال تمثّل النظام التكوينيّ من الطاعة والهداية .

إنّ من تلك الأحوال الممثّلة للخضوع هو : القنوت ، لأنّه ابتهال وتضرّع ، وتبتّل تجاه الربّ الجليل ، وحيث إنّ اللَّه جواد لا يخيّب آمله ولا يردّ سائله ، قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : « ما أبرز عبد يده إلى اللَّه العزيز الجبّار إلَّا أستحيي اللَّه – عزّ وجلّ – أن يردّها صفرا حتّى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء ، فإذا دعا أحدكم

فلا يردّ يده حتّى يمسح على وجهه » « 3 » هذا عدا ما يذكر في القنوت ممّا يدلّ على ضراعة العبد ومسكنته وكونه ذا متربة لاصقا به ، غير قادرة على القيام عنها ، نحو ما في دعاء قنوت الوتر « . ربّ أسأت . ، فهذه يداي يا ربّ جزاء بما كسبت ، وهذه رقبتي خاضعة لما أتيت . » « 4 » .

وللاهتمام بالقنوت الممثّل لما هو السرّ التكوينيّ ، المورث للتطابق بينه وبين النظام التشريعيّ قال مولانا الحسين بن عليّ عليهما السلام : « رأيت رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – يقنت في صلاته كلَّها وأنا يومئذ ابن ستّ سنين » « 5 » فهو – عليه السّلام – بحيث يحضر في صلوات جدّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – كلَّها ، وكان زكيّا وذكيّا ، ومراقبا ومحاسبا ، حتّى يتبيّن له ما يأتيه جدّه صلَّى اللَّه عليه وآله ، إذ الناس مأمورون بأخذ الأحكام من سنّته – صلَّى اللَّه عليه وآله – وسيرته .

ولهذا الاعتداد بالقنوت قال مولانا الصادق عليه السّلام : « من ترك القنوت متعمّدا فلا صلاة له » « 6 » ، أي : لا كمال لها ؛ لأنّ الصلاة إنّما هي للهداية إلى ما هو النظام التكوينيّ من الطاعة التامّة والهداية البالغة ، والقنوت الذي هو مظهر تامّ للتبتّل والابتهال موجب لكمالها ، فإذا ترك القنوت فيها فتفقد – حينئذ – كما لها النهائيّ .

وأمّا التشهّد فأصله قد تمثّل في المعراج ، حيث إنّه لمّا أراد رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – ليقوم قيل : يا محمّد ، اجلس ، فجلس ، فأوحى اللَّه إليه : يا محمّد ، إذا ما أنعمت عليك فسمّ باسمي ، فألهم أن قال : بسم اللَّه ، وباللَّه ، ولا إله إلَّا اللَّه ، والأسماء الحسنى كلَّها للَّه ، ثمّ أوحى اللَّه إليه : يا محمّد ، صلّ على نفسك وعلى أهل بيتك ، فقال صلَّى اللَّه عليه وآله : صلَّى اللَّه عليّ وعلى أهل بيتي « 7 » .

وتأويل التشهّد حسبما في رواية جابر هو تجديد الإيمان ، ومعاودة الإسلام ، والإقرار بالبعث بعد الموت . وتأويل قراءة التحيّات هو تمجيد الربّ سبحانه وتعظيمه عمّا قال الظالمون ونعته الملحدون « 8 » .

وقد تقدّم أنّ سرّ تعدّد السجود هو الإقرار بالبدء من التراب والعود فيه والنشور منه ، فإذا جلس المصلَّي للتشهّد فكأنّه قد انبعث من مرقده ، فيقرّ بالبعث بعد الموت ، ويتكلَّم هنا بالتعليم الإلهيّ ما يشاهده هنالك بعد الانبعاث من الجدث ، فكما أنّ للقرآن تأويلا فيأتي ذلك التأويل يوم القيامة كما أخبره اللَّه تعالى كذلك للتشهّد سرّ عينيّ ، وتأويل تكوينيّ يتجلَّى ذلك السرّ يوم القيامة ؛ لأنّ في ذلك اليوم تبلى السرائر والأسرار ، كما أنّ النظام الاعتباريّ ينطوي بساطه ببسط النظام الحقيقيّ .

وللجلوس حال التشهّد كيفيّة مندوب إليها ، وهو التورّك برفع الرجل اليمنى على اليسرى ، وتأويله كما في مرسلة الفقيه : « اللَّهمّ أمت الباطل وأقم الحقّ » « 9 » ، لأنّ اليمنى مظهر الحقّ والصدق ، واليسرى كناية عن الباطل والكذب ، ولقد روعي هذا الأمر في الآداب والسنن لتكون كلمة اللَّه هي العليا ، وإلَّا فالمؤمن كلتا رجليه يمنى ، كما أنّ كلتا يديه كذلك ؛ لأنّه من أصحاب اليمين والميمنة ، كما أنّ غير المؤمن كلتا رجليه يسرى وكلتا يديه كذلك ، والأصل في ذلك كلَّه ما ورد في حقّ اللَّه سبحانه من أنّ كلتا يديه يمين ، مع أنّه لا يد ولا أيّة جارحة أخرى هنالك لتنزّهه تعالى عمّا يدركه الطرف أو يحسّه الحسّ .

وحيث إنّ ولاية أهل البيت – عليهم السّلام – هي العلَّة الوسطى لدوام الفيض من اللَّه الذي لا يشركه في أمره أحد ولا شيء أمر بلحاظها في التشهّد ، كما أمر بعنايتها في افتتاح الصلاة ، وكما أنّ أصل الصلاة لا تقبل بدون الولاية كذلك صلاة من ترك التصلية على أهل البيت – عليهم السّلام – مردودة وإن كان المصلَّي وليّا لهم ، كما يستفاد من رواية جابر الجعفيّ حيث قال : سمعت أبا عبد اللَّه – عليه السّلام – يقول : « إذا صلَّى أحدكم فنسي أن يذكر محمّدا وآله في صلاته سلك بصلاته غير سبيل الجنّة ، ولا تقبل صلاة إلَّا أن يذكر فيها محمّد وآل محمّد صلَّى اللَّه عليه وآله » « 10 » .

وعن النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله : « من صلَّى صلاة لم يصلّ فيها عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه » « 11 » .

وفي رواية زرارة ، عن الصادق عليه السّلام : « أنّ من تمام الصوم إعطاء الزكاة كالصلاة على النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – من تمام الصلاة » « 12 » وحيث إنّ الصلاة على النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – بدون الصلاة على أهله بتراء فالصلاة عليهم أجمعين من تمام الصلاة ، كما أنّ بالولاية كمل الإسلام ، وتمّ نصاب النعمة الإلهيّة ، وصار الإسلام الولائيّ مرضيّا للَّه سبحانه حسبما في آية من المائدة « 13 » .

ثمّ إنّ للقيام من السجدة أدبا له تأويل ، وله ذكر ذو سرّ ، أمّا القيام من السجدة في الركعة الثانية الَّتي لها جلوس وتشهّد فمسبوق بالقعود ، ولا كلام فيه ، وأمّا في الركعة الأولى وكذا الثالثة من الرباعيّة اللتين لا تشهّد فيهما فليس للمصلَّي أن ينهض من السجود إلى القيام بلا جلوس ، بل عليه أن يجلس مطمئنا ، ثمّ يقوم ، كما في التهذيب ، عن أمير المؤمنين – عليه السّلام – حيث قال : « إنّما يفعل ذلك – أي :

النهوض بلا جلوس – أهل الجفاء من الناس ، إنّ هذا – أي : الجلوس ثمّ النهوض – من توقير الصلاة » « 14 » ، وفي المستدرك عن مولانا أبي الحسن عليه السّلام : « إذا رفعت رأسك من آخر سجدتك في الصلاة قبل أن تقوم فاجلس جلسة ، ثمّ بادر بركبتك إلى الأرض قبل يديك ، وابسط يديك بسطا واتّك عليهما ثمّ قم ، فإنّ ذلك وقار المرء المؤمن الخاشع لربّه ، ولا تطيش من سجودك مبادرا إلى القيام كما يطيش هؤلاء الأقشاب في صلاتهم » « 15 » .

إنّ الصلاة الاعتباريّة المعهودة تحكي واقعيّتها المعنيّة الَّتي لها آثار جمّة ، فتكون مكرّمة ، وكرامتها تقتضي توقيرها ، والجلوس مطمئنا حافظ لتوقيرها ، فلجلوس تأويل يستظهر عند ظهور واقعيّة الصلاة ، وهو يوم يطوي فيه بساط الاعتبار كطيّ السجلّ .

وأمّا الذكر حال القيام من الجلوس فهو : بحول اللَّه تعالى وقوّته أقوم وأقعد « 16 » ، وسرّه هو : أنّ النظام العينيّ التكوينيّ الذي به يعيش الإنسان المتفكَّر المختار منزّه عن دم إفراط التفويض ، ومبرّأ عن روث تفريط الجبر ، بل هو لبن خالص سائغ للشاربين ، لكونه منزلة بين تينك المنزلتين المشؤومتين ، فالمفوّض يقول : لا حول ولا قوّة للَّه فيما يفعله الإنسان في شؤونه الإراديّة ، والجبريّ يقول : لا حول ولا قوّة إلَّا للَّه في ذلك ، والقائل بالاختيار ، المصون عن ذينك المحذورين يقول : لا حول ولا قوّة إلَّا باللَّه ، فهو يثبت للإنسان حولا بحول اللَّه تعالى ، وقوّة بقوّته ، فالذكر الذي يأتيه المصلَّي حين النهوض إلى القيام بعد الجلوس حاو لأصل كلَّيّ متحقّق في جميع شؤونه الإراديّة بلا خصيصة له بحال الصلاة ، كما لا اختصاص له بحال القيام حسبما أخذ في متن الذكر أيضا ، إذ قعود الإنسان أيضا بحول اللَّه وقوّته ، كما أنّ قيامه بذلك ، وذلك السرّ التكوينيّ يتجلَّى يوم القيامة الَّتي يظهر فيها ما هو الباطن ، وهنالك يتّضح بطلان طرفي المتوسّط من الجبر والتفويض ، وكون المتوسّط بينهما حقّا .

وهذا الذي قدّمناه هو المستفاد من قول مولانا الصادق عليه السّلام : « كان أمير المؤمنين – عليه السّلام – يبرأ من القدريّة في كلّ ركعة وبقول : بحول اللَّه وقوّته أقوم وأقعد » « 17 » .

وأمّا التسليم : فأصله قد تمثّل في المعراج ، حيث إنّ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – لمّا أتى بما أمر به من الجلوس والتصلية التفت فإذا بصفوف من الملائكة والمرسلين والنبيّين ، فقيل : يا محمّد ، سلَّم عليهم ، فقال : السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته ، فأوحى اللَّه – عزّ وجلّ – إليه أنّ السلام والتحيّة والرحمة والبركات أنت وذرّيّتك « 18 » .

وتأويل السلام هو الترحّم كما عن أمير المؤمنين – عليه السّلام – حيث قال :

« وتأويل قولك : السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته ترحّم عن اللَّه سبحانه ، فمعناها : هذه أمان لكم من عذاب يوم القيامة » ، ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام : « من لم يعلم تأويل صلاته هكذا فهي خداج ، أي : ناقصة » « 19 » .

وفي العلل : « فإن قال : فلم جعل التسليم تحليل الصلاة ولم يجعل بدلها تكبيرا أو تسبيحا أو ضربا آخر ؟ قيل : لأنّه لمّا كان الدخول في الصلاة تحريم الكلام للمخلوقين والتوجّه إلى الخالق كان تحليلها كلام المخلوقين ، والانتقال عنها ، وابتداء المخلوقين في الكلام أوّلا بالتسليم » « 20 » .

وأيضا في العلل : عن الصادق – عليه السّلام – لمّا سئل عن العلَّة الَّتي من أجلها وجب التسليم في الصلاة ، قال عليه السّلام : لأنّه تحليل الصلاة ، ( قال المفضّل بن عمر : ) قلت : فلأيّ علَّة يسلَّم على اليمين ولا يسلَّم على اليسار ؟ قال عليه السّلام :

لأنّ الملك الموكَّل الذي يكتب الحسنات على اليمين والذي يكتب السيّئات على اليسار ، والصلاة حسنات ليس فيها سيّئات ، فلهذا يسلَّم على اليمين دون اليسار ، قلت : فلم لا يقال : السلام عليك ، والملك على اليمين واحد ، ولكن يقال : السلام عليكم ؟ قال عليه السّلام : ليكون قد سلَّم عليه وعلى من على اليسار ، وفضل صاحب اليمين عليه بالإيماء إليه . إلى أن قال المفضّل : قلت : فلم صار تحليل الصلاة التسليم ؟ قال عليه السّلام : لأنّه تحيّة الملكين ، وفي إقامة الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها وتسليمها سلامة للعبد من النار ، وفي قبول صلاة العبد يوم القيامة قبول سائر أعماله ، فإذا سلمت له صلاته سلمت جميع أعماله ، وإن لم تسلم صلاته وردّت عليه ردّ ما سواها من الأعمال الصالحة « 21 » .

وعن معاني الأخبار ، عن عبد اللَّه بن الفضل الهاشميّ قال : سألت أبا عبد اللَّه – عليه السّلام – عن معنى التسليم في الصلاة ، فقال : التسليم علامة الأمن وتحليل الصلاة ، قلت : وكيف ذلك جعلت فداك ؟ قال : كان الناس فيما مضى إذا سلَّم عليهم وارد أمنوا شرّه ، وكانوا إذا ردّوا عليه أمن شرّهم ، فإن لم يسلَّم لم يأمنوه ، وإن لم يردّوا على المسلَّم لم يأمنهم ، وذلك خلق في العرب ، فجعل التسليم علامة للخروج من الصلاة ، وتحليلا للكلام ، وأمنا من أن يدخل في الصلاة ما يفسدها ، والسلام اسم من أسماء اللَّه عزّ وجلّ ، وهو واقع من المصلَّي على ملكي اللَّه الموكَّلين به .

إنّ السلام اسم من الأسماء الحسنى الإلهيّة ، وهو اسم فعليّ لا ذاتيّ ، فهو ينتزع من فعل اللَّه لا من ذاته . وحيث إنّ فعل اللَّه صادر منه فهو خارج عنه ، مفتقر إليه ، فعليه لا غرو في إطلاقه على المظهر التامّ الإلهيّ ، أي : الإنسان الكامل نحو آل البيت عليهم السّلام ، فعليه لا تنافي بين قوله تعالى : « * ( هُوَ ا للهُ الَّذِي لا إِله َ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ ) * . » « 22 » وبين ما تقدّم من تطبيق السلام على الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – وآله عليهم السّلام . ولمّا كانت الجنّة دارا للَّه الذي هو السلام فصحّ أن يقال لها : إنّها دار السلام ، كما أنّها بنفسها تتّصف بالسلامة أيضا ، إذ لا لغو فيها ولا تأثيم ، فبذلك يظهر معنى قوله تعالى * ( « لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ » ) * « 23 » ، ويتنزّل ذلك السلام من ربّ رحيم ، كما في سورة يس « آية 58 » * ( « سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ » ) * ، فمن كان من أولي العزم وكان أعزم من غيره – نحو : نوح عليه السّلام حيث إنّه تحمّل أعباء الرسالة ألفا إلَّا خمسين عاما – كان سلام اللَّه عليه أوسع من سلامه تعالى على غيره ، إذ لم يرد في حقّ غيره ما ورد في حقّه من السلام العالميّ ؛ لأنّ القرآن قد نطق في حقّه فقط بقول اللَّه تعالى :

* ( « سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ » ) * « 24 » ، وأمّا في حقّ غيره فلا يوجد فيه عنوان « العالمين » .

والملائكة يسلَّمون على المؤمنين ويقولون لهم * ( « سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » ) * « 25 » ، وتحيّة أهل الجنّة بعضهم لبعض إنّما هي بالتسليم ، كما قال اللَّه تعالى * ( « دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ » ) * « 26» .

وهكذا تحيّة رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – لمن جاءه يتعلَّم منه معالم دينه ، كما قال اللَّه تعالى * ( « وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ » ) * « 27 » ، وهؤلاء على صنفين :

أحدهما : من يتسلَّم السلام من اللَّه ويرى الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – وسيطا في إبلاغه ، وهو الأوحديّ من أهل الإيمان .

ثانيهما : من يتسلَّمه من نفس الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – ولا يرى من هو أعلى منه وإن كان يعتقده ، وهو الأوسطيّ منهم ، وعلى أيّ تقدير يكون مجلس دراسة الرسول صلَّى اللَّه عليه وآله – الذي يعلَّم الناس الكتاب والحكمة ، ويزكَّيهم – هو مجلس السلامة ، كما أنّ ليلة القدر – الَّتي أنزل فيها القرآن ، وتنزّل الملائكة فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر سلام – أيضا .

والذي لا ينبغي الذهول عنه هو : أنّ السلام الجدّيّ إنّما يتمشّى في اللقاء الجديد ، فمن كان مصاحبا لشخص ويكون مشغول الذكر به لا يسلَّم عليه ، بخلاف من كان غائبا ثمّ حضر فإنّه يتمشّى منه التسليم ، وحيث إنّ المصلَّي قد أسري وعرج به ، وكان مناجيا ربّه ، غائبا عن الأرض وأهلها ، بل عن ما سوى اللَّه ، فإذا أتمّ النجوى واذن له الهبوط إلى الأرض والحشر مع أهلها فهو حينذاك جديد الورود ، وحديث اللقاء ، فيتمشّى منه التسليم ، وأمّا المصلَّي الذي كان ساهيا عن صلاته ، مشغول السرّ بالأرض وأهلها فلم يكن غائبا عنهم حتّى يحدث له اللقاء ، ويصحّ منه التسليم ، فلذا قال بعض الحافّين حول المعرفة ما معناه : كيف لا يستحي المصلَّي الذي له الويل لسهوه عن صلاته في التسليم ، ولفظه :

واعلم : أنّ السلام لا يصحّ من المصلَّي إلَّا أن يكون مناجيا ربّه ، غائبا عن كلّ ما سوى اللَّه . ، فإذا أراد الانتقال من تلك الحالة إلى حالة مشاهدة الأكوان والجماعة سلَّم عليهم سلام القادم ؛ لغيبته عنهم في صلاته عند ربّه ، فإن كان المصلَّي لم يزل مع الأكوان والجماعة فكيف يسلَّم عليهم ؟ فهلَّا أستحيي هذا المصلَّي حيث يري بسلامه أنّه كان عند اللَّه ! فسلام العارف من الصلاة ؛ لانتقاله من حال إلى حال ، فيسلَّم تسليمتين : تسليمة على من ينتقل عنه ، وتسليمة على من قدم عليه ، إلَّا أن يكون عند اللَّه في صلاته فلا يسلَّم على من انتقل عنه ؛ لأنّ اللَّه هو السلام ، فلا يسلَّم عليه « 28 » .
فتبيّن في هذه الصلة أمور :

الأوّل : أنّ النظام التكوينيّ يدور مدار الهداية البحتة ، بخلاف التشريعيّ منه ؛ لتطرّق الضلالة فيه ؛ لتمرّد بعض الناس عمّا هداه اللَّه إليه .

الثاني : أنّ القنوت ممثّل لما عليه التكوين من الذلَّة والضراعة للَّه سبحانه ، وأنّ القانت غير خائب ؛ لأنّ المسؤول جواد لا يخيّب سائله .

الثالث : أنّ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – كان يقنت في صلواته كلَّها ، وأنّ الصلاة الفاقدة للقنوت غير كاملة .

الرابع : أنّ التشهّد قد تمثّل أصله في المعراج ، والهم الرسول – صلَّى اللَّه عليه

وآله – بما قاله فيه .

الخامس : أنّ تأويل التشهّد هو : تجديد الإيمان والإقرار بالبعث بعد الموت ، وتأويل التحيّات هو : تعظيم الربّ عمّا نعته الملحدون .

السادس : أنّ سرّ التورّك وتأويله هو : إقامة الحقّ وإماتة الباطل .

السابع : أنّ المؤمن كلتا يديه يمين ، وكلتا رجليه يمنى ؛ لأنّه مظهر للَّه الذي ورد في وصفه أنّ كلتا يديه يمين .

الثامن : أنّ ولاية أهل البيت – عليهم السّلام – هي العلَّة الوسطى لأصل الفيض ودوامه وإن كانت العلَّيّة الحقيقية منحصرة في اللَّه تعالى ، وأنّ الصلاة الفاقدة للصلاة عليهم – عليهم السّلام – غير مقبولة .

التاسع : أنّ للقيام من السجدة الأخيرة أدبا ، وله ذكر وسرّ . وأنّ الجلوس قبل النهوض إلى القيام توقير للصلاة ، وتركه جفاء لها .

العاشر : أنّ الجبر والتفويض تفريط وإفراط ، وأنّ المنزلة الوسطى بينهما هو اللبن الخالص المصون عن دم الإفراط وروث التفريط .

الحادي عشر : أنّ قعود العبد كقيامه باللَّه ، وأنّه لولا حول اللَّه تعالى وقوّته لما قدر العبد على القعود ، كما لم يقدر على القيام .

الثاني عشر : أنّ الحوقلة الطاردة لطرفي الإفراط والتفريط جارية في جميع الشّؤون بلا اختصاص لها بالصلاة .

الثالث عشر : أنّ أمير المؤمنين – عليه السّلام – كان يبرأ بالحوقلة في كلّ ركعة من القدريّة .

الرابع عشر : أنّ سرّ الحوقلة يظهر يوم تبلى فيه السرائر والأسرار ، وهو يوم قيام الحقّ بساقه .

الخامس عشر : أنّ التسليم قد تمثّل أصله في المعراج ، والهم الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – بما يقول فيه .

السادس عشر : أنّ تأويل السلام هو الترحّم والأمان ، وأنّ الدخول في الصلاة

كان بتحريم الكلام الآدميّ ، والخروج منها بتحليله .

السابع عشر : أنّ علَّة اختصاص التسليم باليمين هو : التوجّه إلى كاتب الحسنات ، وسبب التعبير فيه بالجمع هو : شموله لمن في اليسار من الملك ، وأنّ في سلامة الصلاة سلامة سائر الأعمال .

الثامن عشر : أنّ عادة العرب قد استقرّت على إحساس الأمن بالتسليم ، وأنّ السلام أمن للصلاة من الفساد .

التاسع عشر : أنّ السلام من الأسماء الفعليّة للَّه ، وأنّ الإنسان الكامل مظهر له ، وأنّ الملائكة يسلَّمون على المؤمن التقيّ النقيّ ، وأنّ السلام العالميّ إنّما اختصّ في القرآن بنوح عليه السّلام ، وأنّ الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – مأمور بالتسليم على من يجيئه لتعلَّم المعارف .

الموفي عشرين : أنّ المصلَّي المناجي ربّه ، الغائب عمّا سواه يتمشّى منه التسليم ، وأنّ المصلَّي الساهي الذي له الويل لم يكن غائبا عمّا سواه حتّى يقدم عليهم ، فكيف يتمشّى منه التسليم ؟ إلَّا أنّه كان مرائيا ، حيث إنّه بسلامه يري أنّه كان مناجيا ربّه ، غائبا عمّن عداه فقدم فسلَّم ، والذي يراه المرائي ويريه أنّه يعبد الحقّ هو : السراب الذي يحسبه الظمآن ماء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
« 1 » هود : 56 .
« 2 » فصّلت : 11 .
« 3 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 319 .
« 4 » المصدر السابق : ص 322 .
« 5 » المصدر السابق : ص 303 .
« 6 » المصدر السابق : ص 302 .
« 7 » المصدر السابق : ص 339 .
« 8 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 340 .
« 9 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 340 .
« 10 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 337 .
« 11 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 337 .
« 12 » المصدر السابق : ص 336 .
« 13 » وهي من قوله تعالى : « * ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ . » .
« 14 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 286 .
« 15 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 286 .
« 16 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 293 – 295 .
« 17 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 46 .
« 18 » المصدر نفسه : ص 11 .
« 19 » المصدر نفسه : ص 61 .
« 20 » المصدر نفسه : ص 68 .
« 21 » جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 68 .
« 22 » الحشر : 23 .
« 23 » الأنعام : 127 .
« 24 » الصافّات : 79 .
« 25 » النحل : 32 .
« 26 » يونس : 10 .
« 27 » الأنعام : 54 .
« 28 » الفتوحات المكّيّة : ج 1 ص 432 .

اسرار الصلاة / الشيخ الجوادي الآملي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل