إن السيدة زينب الكبرى ثاني أعظم سيدات أهل البيت عليهم السلام، كانت حياتها تزخر بالفضائل وتموج بالعظمة والجلالة والروحانيّة وتتراكم فيها الطاقات والكفاءات ومقوّمات الرقي والتفوق.
ولدت الحوراء زينب يوم الخامس من شهر جمادي الأول ويختلف المؤرخون والرواة حول السنة التي وُلدت فيها عقيلة بني هاشم، وهذه بعض أقوالهم.
1. السنة الخامسة من الهجرة في شهر جمادى الأولى. 2. السنة السادسة من الهجرة. 3. السنة التاسعة من الهجرة وفنّد هذا القول الشيخ جعفر نقدي، فقال: (وهذا القول غير صحيح لأن فاطمة عليها السلام توفيت بعد والدها في السنة العاشرة أو الحادية عشرة على اختلاف الروايات، فإذا كانت ولادة السيدة زينب في السنة التاسعة وهي كبرى بناتها فمتى كانت ولادة أم كلثوم). وقال: (والذي يترجح عندنا هو أن ولادة زينب كانت في السنة الخامسة من الهجرة)، وذكر مؤيدات أخرى لما ذهب إليه.
وقد تزوجت السيدة زينب عليها السلام من عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، لقد كان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فذاً من أفذاذ الإسلام وسيداً من سادات بني هاشم، وكان يسمى (بحر الجود) ويقال: (لم يكن في الإسلام أسخى منه). وعوتب على كثرة برّه وإحسانه إلى الناس، فقال: (إنّ الله عودني عادة، وعودت الناس عادة، فأخاف إن قطعتها قطعت عني).
ورزق هذا السيد الجليل من الحوراء زينب عليها السلام كوكبة من الأعلام: 1. عون. 2. محمد وقد استشهد يوم عاشوراء مع أخيه عون. 3. عباس. 4. علي الزينبي. 5. السيدة أم كلثوم وقد زوجها الإمام الحسين عليه السلام من ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر.
من أبرز فضائل السيدة زينب عليها السلام النفسية ومكارمها الأخلاقية؛ زهدها عن الدنيا فقد نبذت جميع زينتها ومباهجها على نهج أبيها الذي طلق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها، وأمها سيدة نساء العالمين زهراء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فقد كانت فيما رواه المؤرخون لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخيل، وجلد شاة، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل وتطحن بيدها الشعير، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا.
وقد تأثرت عقيلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا، وكان من زهدها أنها ما ادخرت شيئاً من يومها لغدها حسبما رواه عنها الإمام زين العابدين عليه السلام. وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار عليه السلام، وقد علمت أنه سيستشهد في كربلاء أخبرها بذلك أبوها، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم، ومتع الحياة. فقد عد من أغنى أغنياء العرب لكنها رفضت ذلك كله وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذود عن مبادئه وقيمه، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها، وما يجري عليها بالذات من الأسر والذل، لقد قدمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى.
تُعتبر السيدة زينب عليها السلام من رواة الحديث في القرن الأوّل الهجري، وقد وقعت في أسناد كثير من الروايات، فقد روت أحاديث عن الإمام علي والسيّدة فاطمة الزهراء والإمامينِ الحسن والحسين(عليهم السلام).
وكان لها (عليها السلام) في واقعة كربلاء المكان البارز في جميع المواطن، فهي التي كانت تشفي العليل وتُراقب أحوال أخيها الحسين(ع) ساعةً فساعة، وتُخاطبه وتسأله عند كلّ حادث، وهي التي كانت تُدبّر أمر العيال والأطفال، وتقوم في ذلك مقام الرجال.
والذي يُلفت النظر أنّها في ذلك الوقت كانت متزوّجة، فاختارت صحبة أخيها وإمامها على البقاء عند زوجها، وزوجها راضٍ بذلك، وقد أمر ولديه بلزوم خالهما والجهاد بين يديه، فمَن كان لها أخ مثل الحسين(ع)، وهي بهذا الكمال الفائق، فلا يستغرب منها تقديم أخيها وإمامها على بعلها.
ندبت(عليها السلام) أخاها الإمام الحسين(ع) يوم عاشوراء: «بِأَبِي مَنْ فُسْطَاطُهُ مُقَطَّعُ الْعُرَى، بِأَبِي مَنْ لَا غَائِبٌ فَيُرْتَجَى، وَلَا جَرِيحٌ فَيُدَاوَى، بِأَبِي مَنْ نَفْسِي لَهُ الْفِدَاءُ، بِأَبِي المَهْمُومُ حَتَّى قَضَى، بِأَبِي الْعَطْشَانُ حَتَّى مَضَى، بِأَبِي مَنْ شَيْبَتُهُ تَقْطُرُ بِالدِّمَاءِ، بِأَبِي مَنْ جَدُّهُ مُحَمَّدٌ المُصْطَفَى…».
لمّا جيء بسبايا أهل البيت(عليهم السلام) إلى الكوفة بعد واقعة الطف، أخذ أهل الكوفة ينوحون ويبكون، فقال حذلم بن ستير: ورأيت زينب بنت علي(عليهما السلام)، فلم أرَ خَفِرة (عفيفة) قطّ أنطق منها، كأنّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين(ع)، وقد أومأتْ إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّتْ الأنفاس، وسكتتْ الأصوات.
ولم تمكث العقيلة بعد كارثة كربلاء إلاّ زمناً قليلاً حتى تناهبت الأمراض جسمها، وصارت شبحاً لا تقوى حتى على الكلام، ولازمت الفراش وهي تعاني آلام المرض، وما هو أشق منه وهو ما جرى عليها من الرزايا، وكانت ماثلة أمامها حتى الساعات الأخيرة من حياتها… وقد وافتها المنية ولسانها يلهج بذكر الله وتلاوة كتابه.
وقد صعدت روحها الطاهرة إلى السماء كأسمى روح صعدت إلى الله تحفها ملائكة الرحمن، وتستقبلها أنبياء الله وهي ترفع إلى الله شكواها، وما لاقته من المحن والخطوب التي لم تجر على أي إنسان.
انتقلت العقيلة إلى جوار الله تعالى على أرجح الروايات يوم الأحد لأربع عشرة مضين من شهر رجب سنة 62 الهجري وقد آن لقلبها الذي مزقته الكوارث أن يسكن ولجسمها المعذب أن يستريح.
فسلامٌ عليها يوم ولدت ويوم توفيت ويوم تبعث حية.