﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾.
عمارة المسجد :
إنّ كل مكان هو لله تعالى، فما معنى أن ينسب الله تعالى بعض الأمكنة له، فيقول عزّ وجلّ “مَسَاجِدَ الله ” ؟ إن هذا له دلالة على قدسية خاصة لتلك الأمكنة.
وقد اعتبرها الله تعالى التي –كما في بعض الأحاديث- بيوته في الأرض، ففي الحديث القدسي”إن بيوتي في الأرض المساجد”.
وما تقدّم من كلام الله تعالى يدور حول عمارة هذه المساجد والعِمارة- بصورة عامة لها معنيان: البناء والإحياء.
1- البناء
من لطيف ما ورد في الروايات حول بناء المساجد أن الله تعالى أول ما خلق الأرض رفع موضع الكعبة ودحا الأرض من تحتها، وأنه عزّ وجلّ حدّد مكان المسجد الحرام قبل نزول آدم(عليه السلام) إلى الأرض، وأنّ جبرئيل (عليه السلام) أرشد آدم(عليه السلام) إلى مكان المسجد ليبني فيه الكعبة الشريفة، وهذا يعني أنَّ الله تعالى قدّم وجود المسجد في الأرض على وجود الإنسان فيها، لتكون ثقافة الإسلام مبنية على كون بيت الله تعالى قبل بيت الإنسان، بل قبل الإنسان نفسه.
وقد أشارت بعض الروايات إلى أن أمكنة المساجد قد حدّدت سابقاً في الغيب الإلهي حيث ورد أنَّ آدم (عليه السلام) حينما بنى الكعبة أخذ جبرئيل(عليه السلام) من كسيراتها فكل موضع وقعت فيه ذرة من تلك الكسيرات بنى فيه مسجد.
من هنا كان بناء المسجد من قبل المؤمنين هو سيرٌ لتحقيق إرادة الله تعالى، ولعلّ هذا أحد الأسباب الكامنة في الشرف العظيم والثواب الكبير الذي كتبه الله تعالى لمن قام ببناء المساجد، فعن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): “من بنى لله مسجد، ولو كمفحص قطاة بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة”.
والمفحص هو الموضع الذي تكشفه القطاة، وتليّنه بصدرها لتبيض فيه.
وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): “من بنى مسجداً في الدنيا بنى الله له بكل شبر –أو قال بكل ذراع- مسيرة أربعين ألف عام مدينة من ذهب وفضة ودرّ وياقوت وزمرد وزبرجد، في كل مدينة أربعون ألف ألف قصر، في كل قصر أربعون ألف ألف دار، في كل دار أربعون ألف ألف بيت، في كل بيت أربعون ألف ألف سرير، على كل سرير زوجة من الحور العين…”.
2-الإحياء
إنّ العمارة الحقيقية التي يريدها الله تعالى هي عمارة الإحياء الذي هو إحياء معنوي للمساجد ورد أنه دافع من إنزال عذاب الله تعالى إلى الأرض، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): “إنّ الله إذا أراد أن يصيب أهل الأرض بعذاب قال: لولا الذين يتحابّون فيَّ، ويعمرون مساجدي، ويستغفرون بالأسحار، لأنزلت عذابي”.
كيف نحيي المساجد؟
إن لإحياء المساجد كيفيات عديدة أوردتها الأحاديث الشريفة نذكر منه:
الزيارة
إن نفس زيارة المسجد هي نوع من إحياء عمارته، وعليها يترتب ثواب جزيل وفضل عظيم يبتدأ • بالمشي إليه، فعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): “من مشى إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، فله بكل خطوة خطاها حتى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ويمحى عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات”. وفي الحديث النبويّ الشريف: “الا بشر المشائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة”. وعن الإمام الصادق(عليه السلام): ” من مشى إلى المسجد، لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس، إلا سبَّحت له إلى الأرضين السابعة”.
•ويعظم فضل الزيارة إذا سُبِقت بالتطهُّر مقدِّمة لها، ففي الحديث القدسي: ” إنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لمن تطهَّر في بيته ثم زارني في بيتي، وحقٌّ على المزور أن يكرم الزائر”.
وتزداد الزيارة عظمة حينما يلتزم بآدابها كالذكر الوارد عند دخول المسجد في حديث الإمام الصادق (عليه السلام): ” إذا دخل العبد المسجد فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الشيطان الرجيم: آه كسر ظهري، وكتب الله له عبادة سنة”.
فإذا تمت الزيارة إلى المسجد، فجلس فيه العبد فإن لنفس جلوسه ثواباً عند الله تعالى، ففي الحديث عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): “يا أبا ذر، إنّ الله تعالى يعطيك ما دمت جالساً في المسجد بكلّ نفس تنفست درجة في الجنة، وتصلي عليك الملائكة، وتكتب لك بكلّ نفس تنفست فيه عشر حسنات وتمحى عنك عشر سيئات”.
وورد عن الإمام علي (عليه السلام): “الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة، فإنَّ الجنة فيها رضا نفسي، والجامع فيه رضا ربي”.
الصلاة
إن ما يزيد من فضل زيارة المسجد أن يُصلّى فيه، فإنَّ الصلاة في المساجد لها ميزات منه:
أ- الثواب المضاعف
عن الإمام علي (عليه السلام): “الصلاة في المسجد الحرام مئة ألف صلاة والصلاة في مسجد المدينة عشرة آلاف صلاة، والصلاة في بيت المقدس ألف صلاة، والصلاة في المسجد الأعظم مئة صلاة… وصلاة الرجل وحده في بيته صلاة واحدة”.
ب- الشهادة للمصلي يوم القيامة
عن الإمام الصادق (عليه السلام): “صلُّوا من المساجد في بقاع مختلفة؛ فإنّ كلَّ بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة”.
وتتأكّد الصلاة في المساجد لجيرانها وهم الذين يسكنون في جوار المسجد في محيط أربعين داراً من كلِّ جانب، أو إلى المدى الذي يصل فيه نداء الأذان، فقد ورد أنه قيل للإمام علي (عليه السلام): ” من جار المسجد يا أمير المؤمنين، فأجاب (عليه السلام): من سمع النداء” وعنه (عليه السلام): حريم المسجد أربعون ذراعاً، والجوار أربعون داراً من أربعة جوانبها”.
إلى هؤلاء الجيران لبيوت الرحمن توجهت الكلمة الشهيرة عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): “لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد”.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): “شكت المساجد إلى الله تعالى الذين لا يشهدونها من جيرانها، فأوحى الله عز وجل إليه: وعزتي وجلالي، لا قبلتُ لهم صلاة واحدة، ولا أظهرتُ لهم في الناس عدالةً، ولا نالتهم رحمتي، ولا جاوروني في جنّتي”
ج- قراءة القرآن
عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): ” إنما نصبت المساجد للقرآن”.
د- الدعاء
عن الإمام الصادق(عليه السلام): ” عليكم باتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن اتاها متطهرا طهره الله من ذنوبه، وكتب من زواره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء”
هـ- التعلٌّم
عن النبي (صلى الله عليه وآله): ” من راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلّم خيراً، أو ليعلّمه فله أجر حاج تام الحجة”.
وورد أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) دخل المسجد، فإذا فيه مجلسان، مجلس يتفقّهون، ومجلس يدعون الله ويسألونه، فقال(صلى الله عليه وآله): “كلا المجلسين إليَّ خير، أما هؤلاء فيدعون الله، وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل، هؤلاء أفضل بالتعليم، بالتعليم أُرسلت لما أرسلت”، ثم قعد معهم.
فوائد الحضور في المسجد
إنّ ما مرَّ يعبِّر عن فوائد جمّة تترتب على الحضور المسجدي التي منه:
التكامل المعنوي من خلال الزيارة والصلاة وقراءة القرآن.
التكامل الثقافي من خلال التعلّم.
يضاف إليه:
3- التكامل الاجتماعي وذلك من خلال البيئة الإيمانية التي يؤمنها المسجد، ففيه تحصل العلاقة الأخوية الصادقة التي يندر للإنسان أن يحصل عليها في أي مكان آخر، وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى ذلك بقوله الوارد عنه: “لا يرجع صاحب المسجد بأقل من إحدى ثلاث: إما دعاء يدعو به يدخله الله به الجنة، وإما دعاء يدعو به فيصرف الله عنه بلاء، وإما أخ يستفيده في الله عزّ وجل”.
4- تعلٌّم النظام
إنّ صلاة الجماعة خير معلّم للنظام الاجتماعي الذي يحبه الله تعالى ويحث عليه.
5-تعلُّم الجمال
إضافة إلى النظام الذي يمارسه المؤمن في صلاة الجماعة فإن ترتيب الصلاة بذلك النظم يجعل الإنسان مستأنساً بالصورة الجميلة التي تضفيها هذه الصلاة.
6-تعلُّم الوحدة الإسلامية
إنّ من فوائد صلاة الجماعة في المسجد هو تلك الوحدة التي يمارسها المصلي مع إخوانه المسلمين حينما يصلون معاً، فإنهم يقفون معاً، ويركعون معاً، ويسجدون معاً، ويجلسون معاً، مما يعبّر عن الصورة الأبهى التي يتعلمها روّاد المسجد في التفاعل الجماعي في وحدة منتظمة يمارس فيها المسلمون وحدة أحبَّ الله أن تنتقل من المساجد إلى جميع أنحاء المجتمع الإسلامي.
7-الوعي السياسي
إن صلاة الجماعة في المسجد تُشعر المؤمنين بقوّتهم المنطلقة من وحدتهم، وإن توجّههم ناحية المحراب توحي بتوحيد البوصلة في حربهم على شيطان الداخل وشيطان الخارج المتمثّل بعدو الإسلام، وإن منبر المسجد الذي يتعرّض فيه خطيبه لقضايا المسلمين تبثّ الوعي الاجتماعي والسياسي عندهم. وتدخلهم إلى التواصي بالحقّ والصبر في نصرة الإسلام، والتغلّب على المصاعب التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية.
إنّ هذا الدور الأساس وهذه الفوائد العظيمة للمساجد هي التي جعلت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يؤسس في مكان انتظار أمير المؤمنين(عليه السلام) والفواطم مسجد قب، ثم يؤسّس في المدينة وقبل أيّ حركة أساسية المسجد النبوي الشريف، وهي التي تجعل من المتردّد إلى المسجد في موقع استثنائي في يوم القيامة، فعن النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله): “سبعة أظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظلّ الا ظلّه امام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجلّ، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود اليه…”. هكذا كان المسجد في صدر الإسلام.
وهذا ما أدركه أعداء الإسلام فعملوا جاهدين على تفريغ المساجد من هذه المضامين الهامّة، والدور الكبير الفعّال.
وجاء الإمام الخميني(قدس سره) يدعو إلى إعادة المساجد إلى أصالته، ودوره، فقال(قدس سره): “اسعوا في إعادة المساجد إلى ما كنت عليه في صدر الإسلام.”
واعتبر الإمام(قدس سره) أن المساجد هي سبب الانتصار العظيم للثورة الإسلامية في إيران، فقال: “إنّ المساجد هي التي حقّقت النصر لأبناء شعبنا”
بل نبّه إلى الأهمّية البالغة للمساجد بقوله: “إنّ حفظ المساجد من الأمور التي يعتمد عليها وجود الإسلام اليوم”.