يعتبر الإسلام أنّ الإنسان محتاج حقيقة إلى الله ([1])، إلّا أنّ الإنسان الكامل فقط هو الّذي يدرك حقيقة وجوده، وبالتالي فإنّ معرفة حقيقته من علائم الوصول إلى أعلى درجات القيمة.
يقول الإمام علي عليه السلام: “نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة الناس”([2]). ومن طرف آخر فإنّ المدرك لحقيقة وجوده – أيّ ارتباطه بالله – دركاً حضورياً كاملاً سيدرك أيضاً أنّ وجود الله هو الوجود المستقلّ فقط وأنه ربه وخالقه:
عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”([3]).
إنّ المعرفة الحضورية بالله هي نوع من الرؤية الباطنية لله ومثل هذه المعرفة تختصّ بالإنسان الكامل فقط لأنّ الإنسان إذا ما توجه إلى أيّ شيء توجهاً استقلالياً فلن يكون بإمكانه أنّ يرى ما عداه، ومثالاً على ذلك عندما ندقّق النظر في المرآة – والتي هي من الأجسام الشفافة جداً – وركزنا توجهنا إلى سطحها فلن يكون بإمكاننا أنّ نرى ما وراءها.
إنّ الإنسان الكامل بالمشاهدة الحضورية والإدراك الباطنيّ عندما يدرك حقيقة أنّ وجوده عين الربط والتعلّق بالموجود المستقلّ فقط أيّ الله تعالى فلن يرى أيّ استقلالية لأيّ موجود آخر بل إنّه فقط سوف يتوجّه إلى الله توجهاً استقلالياً وبالتالي سترتفع من أمامه كلّ الحجب المانعة له من مشاهدة الله وسيرى أنّ كلّ شيء آية من آيات الحق وأن الله موجود في كلّ شيء، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾([4]).
وعن الإمام السجاد عليه السلام أنّه قال: “ولا تحجب مشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك”([5]).
ويطلب الإمام علي عليه السلام مثل هذا المقام أيضاً حيث يقول: “إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حُجُب النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك.. وألحقني بنور عزك الأبهج فأكون لك عارفاً وعن سواك منحرفاً”([6]).
وهو نفسه الواصل إلى هذا المقام العظيم يقول: “ما كنت أعبد رباً لم أره”([7]).
وكذلك فإنّ الإمام الحسين عليه السلام سيد الشهداء يظهر مثل هذه المعرفة حيث يقول: “ألغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً… ماذا وجد من فقدك وما الّذي فقد من وجدك؟ وأنت الّذي تعرفت إليّ في كلّ شيء فرأيتك ظاهراً في كلّ شيء”([8]).
ومن اللوازم الأخرى للوصول إلى القيمة النهائية وأعلى درجات القرب المحبةُ والرضا بين الله والإنسان، ويشير القرآن الكريم إلى هؤلاء الواصلين إلى هذه المرتبة فيقول: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾([9]).
وأيضاً: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾([10]).
وكذلك: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة﴾([11]).
ويقول الإمام الحسين عليه السلام في هذا المجال: “أنت الّذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحّدوك وأزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك”([12]).
وعن الإمام السجاد عليه السلام أنّه قال: “وقرّت بالنظر إلى محبوبهم أعينهم.. وما أطيب طعم حبك وما أعذب شرب قربك فأعذنا من طردك وإبعادك”([13]).
أسس الأخلاق، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) فاطر 35: 15،”يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” (المترجم).
([2]) عبد الواحد بن محمّد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 232، الحديث 4641.
([3]) محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص 32.
([4]) القيامة 75: 22 و 23.
([5]) محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج81، ص 144، مقتطف من مناجاة الخائفين.
([6]) نفس المصدر، ص 99، مقتطف من المناجاة الشعبانية.
([7]) محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1، ص98.
([8]) محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج95، ص 226 – 227، مقتطف من دعاء عرفة.
([9]) البقرة 2: 165.
([10]) المائدة 5: 54.
([11]) الفجر 89: 27 و 28.
([12]) محمّد باقر المجلسي، نفس المصدر.
([13]) محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج91، ص 151، مقتطف من مناجاة العارفين.