لا شكّ في أنّ من أبواب العبادات التي لا يفطن لها الكثير من الصالحين هو عبادة كفّ الأذى، فالكثير من الناس يتصور أن الخير محصور في أداء الشعائر وبذل المعروف فحسب، وأقله كما ورد في تعريفه هو ترك ما يسيء للإنسان قولًا أو فعلًا.
ولا بدّ من إلفات النظر إلى أنّ عدم التنبه إلى خطورة كفّ الأذى عن الناس يجعل من المستحيل أو شبه المستحيل أن يصبحَ الإنسان متديّناً بشكل كامل.
ولا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أن المؤمن كما يؤجَر على فعل الطاعات وبذل المعروف، كذلك يؤجر على كفّ الأذى وصرف الشرّ عن المسلمين، لأن ذلك من المعروف وداخل في معنى الصدقة كما في الرواية عنْ أَبِي ذَرّ،ٍ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: “الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ”، قَالَ: قُلْت: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: “أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا”، قَالَ: قُلْت: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، قَالَ: “تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرِقَ”، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت إنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: “تَكُفُّ شَرَّك عَنْ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْك عَلَى نَفْسِك”[1].
هل تعلم أنّ كفّ الأذى برنامج أخلاقي متكامل؟
قد تجد الكثير من علماء الأخلاق يؤكّدون على أنَّ كفّ الأذى عن الناس هو برنامجٌ عباديٌ متكاملٌ، بمعنى أنَّ على مَن يحمل همَّ بناء نفسه، ويحرص على الاستعداد للآخرة والقرب من الله، أن يتنبّهَ إلى كفّ الأذى عن الناس.
يقول المولى المازندراني رحمه الله: “وإنّما كان كفّ الأذى من كمال العقل، لأنّ العاقل يعلم أنّ الغرض الأصليّ من الخُلق هو الوصول إلى جناب عزّته[2]… بأجنحة الكمال، مع الملائكة المقرَّبين[3]، وأنّ ذلك كما يتوقّف على عبادة الرحمن، كذلك يتوقّف على كفِّ الأذى عن الإخوان، فكما أنّ صرف الهمّة في العبادة من كمال العقل، كذلك صرف النفس عن الأذى”[4].
وفي الرواية عن مولانا علي بن الحسين عليه السلام: “كَفُّ الأذى مِن كمال العقل، وفيه راحةٌ للبدن عاجلًا وآجلًا”[5].
واعتباره كل الأخلاق أيضًا لكثرة ما يطلّ على موضوعات مرتبطة بهذا العلم، مثلاً: يطلُّ بنا على موضوع الظلم، لأنَّ الأذى المحرّم ظلم، ويطلُّ بنا على موضوع الغضب، لأنَّه هو المناخ الطبيعي لصدور الأذى عنا، ويأخذنا على الغيبة كونها من مصاديقه، فهي تسوء المغتاب الذي تمّت استغابته، ويقودنا إلى البهتان[6]، لأنَّه من أوضح مصاديقه، ويأخذنا إلى آفات اللسان[7]، أو ما يصدر بحركةٍ، بغير اللسان، فقد يصدر بإشارة أو بكتابة[8]، ويطلُّ بنا على مواضيع العجب والغرور والتكبّر، لأنَّها المنطلق الذي يجعل الإنسان راضيًا عن نفسه مستسهلًّا أن يؤذيَ الآخرين، ويطلّ بنا كذلك على الحلم والعفو وحسن المعاملة والإحسان إلى المسيء[9]، أمَّا الحلم والعفو فلحاجة المؤذي إليهما ليمنعاه عن الأذى الذي يبدأ ردّةَ فعلٍ ثم يتجاوز حدوده، وأمَّا حسن المعاملة والإحسان فالحاجة إليهما وإطلال الموضوع عليهما كنقيضين لكفّ الأذى.
عند التأمّل في هذه الإطلالات تعرف أهمية هذه العبادة، ولِمَ عبّر عنها بأصل الأخلاق، أو البرنامج العبادي المتكامل للسالك إلى الله.
تذكرة لمن يخشى…، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] مسلم النيسابوري، الجامع الصحيح صحيح مسلم-، ج 1، ص 62.
[2] العزة صفة لله جل وعلا، ومن أسمائه سبحانه وتعالى العزيز والعزيز هو الذي كملت له أوصاف العزة.
ولها عدد من المعاني العزة التي هي بمعنى الامتناع والغنى وعدم الحاجة، الامتناع عمن يغالب أو عمن يسيء والغنى، والغنى عن الخلق، الثاني العزة بمعنى القهر والغلبة، الثالث العزة بمعنى القوة التي لا يقوى عليها قوة لا يند عنها شيء، والمقصود القرب منه.
[3] طبقات الملائكة مختلفة في الدرجة والفضيلة، فالأكابر منهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش والملائكة المقربون هم المسمَّون بالكروبيين؛ أي سادة الملائكة، ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش، وهم أشرف الملائكة مع حملة العرش، وهم الملائكة المقربون كما قال تعالى: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ سورة النساء، الآية 172-. وأفضل المقربين رؤساء الملائكة الثلاثة الذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكرهم في دعائه الذي يفتتح به صلاته إذا قام من الليل فيقول: “اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض..”.
[4] المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 1، ص 194-195.
[5] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص 141.
[6] الغِيبة: ذكر مساوئ الإنسان التي فيه في غيبته، والبهتان: ذكر مساوئ للإنسان وهي ليست فيه، والشتم: ذكر المساوئ في مواجهة المقول فيه، والإفك: أن تقول في إنسانٍ ما بلغك عنه، فتنقله دون التثبّت والتيقُّن من صدقه.
[7] منه: الكلام بما لا يعنيك، فضول الكلام، الخوض في الباطل، التكلف والتصنع في الكلام، الفحش والسبّ وبذاءة اللسان، السخرية والاستهزاء، إفشاء السر، الوعد الكاذب، الغيبة، النميمة، قذف المؤمنين.
[8] فإن الهُمَزة: الذي يُعكَس بظهر الغيب، واللُّمزة: الذي يُعكس في وجهك. وقيل: الهمزة: الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه، واللمزة: الذي يكثر عيبه على جليسه ويشير برأسه ويومئ بعينه. وقيل: الهُمَزَة: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللُّمَزَة: الذي يَلْمِزهم بلسانه. وقيل: الهُمَزَة: الذي يهمز بلسانه، واللُّمَزَة: الذي يلمز بعينه.
[9] الصفح: ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح، والعفو ترك عقوبة المذنب، والصفح: ترك لومه. ويدل عليه قوله تعالى: ﴿فَاعْفُواْ وَاصْفَحُو﴾ سورة البقرة، الآية 109-، ترقيًا في الأمر بمكارم الأخلاق من الحَسَن إلى الأحسن، ومن الفضل إلى الأفضل.