لقد استند القرآن الكريم إلى مختلف أنواع البراهين التي تثبت وجوده تعالى، ورغم تنوع البراهين، التي تحاكي أذهان كافة أصناف الناس، فإن منها ما يناسب الفيلسوف، ومنها ما يناسب العالم الطبيعي، ومنها ما يناسب المزارع والمهني، ومنها ما يناسب البدوي، في أنماط تفكيرهم، ومستوى إدراكهم، ولكن الذي اعتمد عليه بشكل أساسي قانون بديهي يدركه جميع الناس، على اختلاف طبقاتهم وأصنافهم، لا يرتاب فيه أحد منهم، إلا من كان مكابرا وغير سليم العقل.
ولقد أثبت القرآن الكريم أدلته على وجوده تعالى، بالاستناد إلى طريقي البرهان المعتمد على قانون العلية، وهما برهان اللم الذي ينتقل فيه من العلة إلى المعلول، كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[1]، وبرهان الإن وله طريقان أحدهما: الاستدلال عن طريق الانتقال من المعلول إلى العلة، والآخر: الاستفادة من الملازمات العامة للانتقال من الملزوم إلى اللازم وبالعكس، فمن الأول قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾[2]، والأمثلة كثيرة في هذا الباب، نظرا لقرب هذا الطريق إلى أذهان الناس أكثر مما سواه.
ومن الثاني قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾[3].
فإن السؤال عن كيفية صنع هذه المخلوقات، التي تدل في انسجامها وتكاملها عن وجوده تعالى.
إلا أن هذا القسم الثاني من برهان الان، لما كان بحاجة إلى كثير من بذل الجهد الفكري، والتأمل في خواص الموجودات، لم يعتمده القرآن الكريم بشكل مكثف، لبعده عن أذهان المخاطبين على العموم، ولكن دون إهماله بالمرة.
ثم ملاحظة مهمة في المقام، وهي أن القرآن الكريم لم يعتمد إظهار البراهين الدالة على الذات المقدسة، بصورة عقلية ونظرية جافة، ربما تأنفها بعض الأذهان والعقول، بل انه أبرزها بصورة عملية تقارب حياتهم الواقعية، وسلوكهم العملي، بشكل مباشر لتحاكي وجدانهم، وتثبت في قلوبهم، دون أن يخل ذلك في استقامة البرهان على المستوى النظري، وهذا في الحقيقة من الخصائص الإعجازية البارزة في القرآن الكريم، ولهذا أسر قلوب الناس، حتى المشركين منهم، والمتضررين من دعوته، وسحر عقولهم، وقد تحدث التاريخ عن الكثير من حالات استراق السمع من المشركين لكلام القرآن، بحيث لم يجدوا من أنفسهم القدرة على عدم استماعه والاستئناس بكلامه، وهو ما دعا كبارهم للنهي عن الاستماع إليه، وحثهم على ذلك، خوفا من أن يتأثر الناس به، فيخرجون عن سيطرتهم، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾[4].
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
[1] سورة فصلت، آية: 53
[2] سورة الروم، آية: 23
[3] سورة الغاشية، آية: 17-20
[4] سورة فصلت, آية: 26