كيف يمكن الجمع بين هاتين الروايتين وهل يوجد تعارض بينهما؟
ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله أنه قال: «جُلوسُ المَرءِ عِندَ عِيالِهِ أحَبُّ إلَى اللّهِ تَعالى مِنِ اعتِكافٍ في مَسجدي هذا».(1)
وجاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ «لاَ تَجْعَلَنَّ أَکْثَرَ شُغُلِكَ بِأَهْلِكَ ووَلَدِكَ، فَإِنْ يکُنْ أَهْلُكَ ووَلَدُكَ أَوْلِياءَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يضِيعُ أَوْلِيَاءَهُ، وإِنْ يکُونُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَمَا هَمُّكَ وشُغُلُكَ بِأَعْدَاءِ اللَّهِ؟!».(2)
ما يمكن القول حول هاتين الروايتين أنه يبدو من ظاهر الأمر هناك تعارض فيما بينهما، ولكن مع التركيز وفهم كل من الروايتين نرى أن هناك لا يوجد أي تعارض، ويمكن أن يستفيد الإنسان المؤمن من كلا الروايتين في تحسين روابطه مع الله سبحانه وتعالى وعياله.
الرواية الأولى تشير إلى الحالة التي يجلس فيها الرجل، (أي: رب الأسرة) بجانب زوجته وأولاده لأداء الواجبات الدينية من إدارة الشوؤن البيت والأمور التربوية وأداء حقوق الزوجة والأولاد، ففي هذه الحالة يكون البقاء بجانب الأسرة أحسن من الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف مستحب، والأمر الأول واجب.
وأما الرواية الثانية فأنها تشير إلى حالة كون الرجل، (أي: رب الأسرة) قلقلاً دائماً ومنشغلاً بأمر معاش زوجته وأولاده، ويعتمد على نفسه في إيصال القوت والمال إلى أهله، وينسى بأن الرازق المطلق هو الله تعالى، ويكون غافلاً عن أمر دينه وآخرته، ولا يبادر لأمور الخير والمستحبات؛ ليذخر شيئاً لآخرته، أي: يهتم معظم وقته بعياله وينسى نفسه، فهذا الأمر غير محبب من قبل الشارع؛ ولهذا ردع عنه أمير المؤمنين عليه السلام بأن يكون كل هم الإنسان الانشغال بأمور الدنيا.
وببيان آخر قد جاء في ذيل هذه الموعظة في كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: قد تقدم القول نحو هذا المعنى، وهو أمر بالتفويض والتوكل على الله تعالى، فيمن يخلفه الإنسان من ولده وأهله؛ فإن الله تعالى أعلم بالمصلحة، وأرأف بالإنسان من أبيه وأمه، ثم إن كان الولد في علم الله تعالى وليا من أولياء الله سبحانه، فإن الله تعالى لا يضيعه قال سبحانه: ﴿ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.(3) وكل ولي لله فهو متوكل عليه لا محالة، وإن كان عدوا لله لم يجز الاهتمام له والاعتناء بأمره؛ لأن أعداء الله تجب مقاطعتهم، ويحرم توليهم فعلى كل حال لا ينبغي للإنسان أن يحفل بأهله وولده بعد موته .
واعلم أن هذا كلام العارفين الصديقين لا كلام أهل هذه الطبقات التي نعرفها فإن هذه الطبقات تقصر أقدامهم عن الوصول إلى هذا المقام .
و يعجبني قول الشاعر:
أيا جامع المال وفرته
لغيرك إذ لم تكن خالدا
فإن قلت أجمعه للبنين
فقد يسبق الولد الوالدا
و إن قلت أخشى صروف الزمان
فكن من تصاريفه واحدا(4)
وقد ورد عن أنس أنه قال: قُلتُ: «يا رَسولَ اللّهِ، الجُلوسُ مَعَ العِيالِ أفضَلُ، أمِ الجُلوسُ فِي المَسجِدِ؟ قالَ: الجُلوسُ ساعَةً عِندَ العِيالِ أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الاعتِكافِ في مَسجِدي هذا.
قُلتُ: يا رَسولَ اللّهِ، النَّفَقَةُ عَلَى العِيالِ أحَبُّ إلَيكَ، أمِ النَّفَقَةُ في سَبيلِ اللّهِ؟
قالَ: دِرهَمٌ يُنفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى العِيالِ أحَبُّ إلَيَّ مِن ألفِ دينارٍ يُنفِقُهُ في سَبيلِ اللّهِ».(5)
1ـ تنبيه الخواطر لورام بن ابي فارس / المجلّد 2 / الصفحة 122 ؛ المواعظ العدديّة للمشكيني الاردبيلي / الصفحة 33.
2ـ نهج البلاغه للسيد الرضي، تحقيق صبحي صالح / الصفحة 536.
3ـ سورة الطلاق: الآية 3.
4ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد / المجلّد 19 / الصفحة: 268.
5ـ بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي /المجلّد 89/ الصفحة 213/ رقم الحديث57.
