فلسفة الانتظار الذي تبتنى عليه فكرة “المهديّ المنتظر” فقد شرحها واحد من كبار علماء الشيعة الإماميّة في القرن الرابع الهجريّ، وهو عليّ بن الحسين بن موسى، ابن بابَوَيْه، أبو الحسن، القُميّ (ت329) في مقدّمة كتاب “الإمامة والتبصرة من الحَيْرة” الذي ألّفه لمعالجة هذا الأمر بالخصوص، فإنّه ذكر عِللا خمسا “للانتظار” هي من إيجابيّات “المهديّ المنتظر” فلنقرأها:
قال:
ولكنّ الله – جلّ اسمه – جعله أمرا “منتظَرا” في كلّ حين وحالا “مرجوّةً”
عند كلّ أهل عصر:
1 – لئلاّ تَقْسُوَ – بطول أجلٍ يضربه الله – قلوب.
2 – ولا تُسْتَبْطَأَ – في استعمال سيّئة وفاحشةٍ – موعدةُ عقاب.
3 – وليكون كل عاملٍ على أُهْبَةٍ.
4 – ويكون من وراء أعمال الخيرات أُمنيّة، ومن وراء أهل الخطايا.
والسيّئات خشية وردعة.
5 – وليدفع الله بعضا ببعض.
[الإمامة والتبصرة من الحيرة، لابن بابويه القمي (ت329) تحقيق السيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ، ص143-144، نشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث – بيروت 1408 هــ ].
وقد وفّقني الله للعثور على ذلك الكتاب وتحقيقه منذ سنوات، وقد شرحت هذه القطعة من كلامه بما يُناسب إيراده هنا، فقلتُ:
هذه خمس عللٍ ذكرها المؤلّف “للغَيْبة” وهي أسرار “الانتظار” يمكننا أن نقف لشرحها على صفحات كثيرة، لكنّنا نشير في هذا المجال إلى مختصر من القول:
الأمر الأوّل: أشار به إلى “الأمل” الذي تبعثه الغَيْبة في نفوس المستضعفين، وأنّ “الانتظار” لا يزرع في قلوبهم: القسوةَ، والخمودَ، واليأسَ، بل: يخلق في نفوسهم: النشاطَ، والوثبةَ، والبأسَ.
لأنّهم بالإيمان بالغَيْبة لا يجهلون المصير، كما يتخيّلُ المبطلون، بل هم على موعدٍ إلهيّ، واثقون من التحرّر بقيادة حكيمةٍ مدعومةٍ بالنصر الإلهي.
والأمر الثاني: يُشير به إلى حساب الطواغيت المسيطرين على رقاب الناس، فإنّ الغيبة تبعثُ في أعماقهم رُعْبا لا يهدأ، لأنّهم لا يعلمون متى يأتي وعْدُ الله بعذابهم “فإنّه آتيهم من حيث لا يشعرون”.
إنّ جهلهم بالمصير، يُرْبكهم، ويجعلهم في ريبٍ ممّا يقومون به من الظلم والفحش، لأنّهم: (يحسبون كلّ صيحة عليهم).
والأمر الثالث: – وهو أهمّ الأُمور: أنّ الغيبة تجعل الإنسان المؤمن، العامل في سبيل الله، في حالة الإنذار القصوى، دائما، وعلى استعداد تام، لكي يقوم بدوره في كلّ حين. يَعُد الأيام، بل الساعات، ليحين الحين، لكي ينطلق نحو الهدف. إنّه لا بُدَ أن يهيئ حاله بكامل العُدَة من الصلاح والسلاح.
إنّ “الانتظار” على هذا يعني عملية استنفار مستمرّة لجُند حزب الله، العاملين.
فما أعظم ذلك من حكمةٍ!!
والأمر الرابع: أنّ الوعد والوعيد، والتبشير والإنذار، لَمِمّا اعتادت النفوس على الاهتمام بهما، والاعتماد عليهما في الحياة، بل إنّ مبنى الناس في إقدامهم أو إحجامهم، على الأمانيّ والاَمال بما يبشّرهم، أو على أساس الخوف والفزع ممّا يُنذرهم.
لهذا، فإنّ “الانتظار” يكون لعامل الخير أُمنيّةً يرجوها ويأملها، فيستمرّ على عمل الخير. ويكون لعامل الشرّ خوفا كامنا يتبعه، ووحشة تلاحقُه، فتردعه عن شرّه، وتكفّه عن اتّباع سريرته الشِرّيرة السيّئة .
والأمر الخامس: إشارة إلى سُنّة الحياة، في التنازع على البقاء وأن تبقى بعض الأُمور مجهولة، كي تستمرّ عجلة الحياة في السير، ولا تخمد جمرة الوجود عن الإثارة، ولكي يبقى للإنسان الخيارُ في أن يختار الأفضل.
ولو كانت الحقائق – كلّها – واضحة مكشوفة، لَما كان في اختيار الحقّ ميزة للمحقّين، ولم يكن ابتعاد الإنسان عن الشرّ مدعاةً للفرح والسرور. كما إنّ في ذلك إتماما للحُجّة على المعاندين، ممّن اختاروا طريق الفساد، والظلم، ولشرّ، بينما الأخيار إلى جنبهم -أيضا – يعيشون في هذه الحياة ولكن (لولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لَهُدمتْ صوامعُ وبِيَع وصلوات ومساجدُ يُذكر فيها اسمُ الله).
[ الإمامة والتبصرة من الحيرة، بتحقيقنا، المقدّمة، ص112-114]
إنّ “إيجابيّات الانتظار” هذه التي ذكرها القُمّي في القرن الرابع الهجري، هي مستلهَمة من واقع الحياة، وسُنّة الله في خلقه، وهي منطبقة على كلّ حالات “الانتظار” التي كانت من قبل، ومن بعد، إلى عصرنا الحاضر.
وها هم المظلومون في كلّ بُقعةٍ من الأرض، والمؤمنون في الأرض الإسلاميّة، تنطلق جموعهم المصدّقة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
وأخباره بخروج المهديّ ودعوته للتمهيد له، وكلّهم في فوران وتوقّع لحكم كلمة الله، يثورون ضدّ الحكومات الجائرة، والحكّام الطغاة الفاسدين من الملوك، والرؤساء والأُمراء والوزراء، وكلّ دجّال لئيم، يتكئ على أريكة
الحكم والسلطة، بالباطل والزور، مُتقنّعا باسم الإسلام !؟
والمسلمون – أجمعون – ينتظرون خروج المهديّ الموعود ليحقّق النصر الإلهيّ بتمكين المستضعفين في الأرض، بمنّه وكرمه.