قول تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام﴾1.
أهمية الرحم:
لعلّه من الأمور التي لا تحتاج إلى كثرة تأمل وتفكير الأهمية الفائقة التي يعطيها القرآن الكريم لمسألة الرحم وصلة القربى إلى درجة أنه يذكر الأرحام بعد ذكر اسم اللَّه سبحانه ويدعو إلى صلتهم والقيام بحقوقهم، كما يحذّر من قطيعتهم بلهجة شديدة حيث يقول سبحانه: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾2، وغير خفي على أحد ما يترتب من الآثار الايجابية على التواصل معهم وكيف ينعكس ذلك على بناء الأسرة ونشر المودة بين الأقرباء من الكبار والصغار وكذلك ما يترتب من الآثار السلبية على قطيعتهم وكيف يؤدي ذلك إلى سوء العلاقة وربما ترك عاملاً مؤذياً يرثه الأبناء عن الآباء، ولهذا جاء العطف في الآية المتقدمة لقطع الأرحام على الإفساد في الأرض.
ومما يبرز مكانة هذا الواجب الإلهي حتى وإن تطلّب جهداً وقطع مسافات طويلة أو صرف أوقات غير يسيرة، وما جاء عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد ذلك بقوله: “أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة، أن يصل الرحم وإن كان منه على مسير سنةٍ ذلك من الدين”3.
معنى الرحم:
الرحم في اللغة عبارة عن علاقة القرابة وأصل ذلك من رحم الأنثى وهو موضع النسل منها والقرابة تسمّى بها لحصولها، وذو الرحم: هم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسبٌ4.
وعرّفها في الميزان: “بأنها جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الإنسان من حيث اتصال مادة وجودهم في الولادة من أب وأم أو أحدهما، وهي جهة حقيقية سائرة بين أولي الأرحام لها آثار حقيقية خلقية وخُلقية، وروحية وجسمية غير قابلة الإنكار”5.
آثار صلة الرحم:
وهي تنقسم إلى قسمين: الأول: الآثار الدنيوية، والثاني: الآثار الأخروية. وقد استفدنا هذا التقسيم من روايات أهل البيت عليهم السلام.
1- الآثار الدنيوية لصلة الرحم:
الأثر الأول: طول العمر
فإنه مما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الرجل ليصل رحمه وما بقي من عمره إلا ثلاثة أيام فينسئه اللَّه عزّ وجلّ ثلاثين سنة، وإن الرجل ليقطع الرحم وقد بقي من عمره ثلاثون سنة فيصيّره اللَّه إلى ثلاثة أيام”6.
الأثر الثاني: تنمية المال
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إن القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة فيصلون أرحامهم فتنمي أموالهم، وتطول أعمارهم فكيف إذا كانوا أبراراً بررة”7.
الأثر الثالث: الإلتيام
حيث أن الرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعي بين الأفراد، ولها حركة فعّالة في رتبة العلاج للأزمات الاجتماعية، ولذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى وأشدّ مما ينتجه ذلك بين الأجانب، وكذلك الإساءة في مورد الأقارب أشدّ أثراً منها في مورد الأجانب.
يقول أحد الشعراء:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً على المرء من وقع الحسـام المهنَّدِ
ويظهر معنى الأثر المذكور في إعادة المياه إلى مجاريها وتأثير الرحم لأثرها الطبيعي من خلال قوله عليه السلام: “فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدنُ منه”… فإن الدنو من ذي الرحم رعاية لحكمها وتقوية لجانبها فتنتبه بسببه ويتجدد أثرها بظهور الرأفة والمودة.
الأثر الرابع: تنمية العدد
حيث جاء عن الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام: “فرض اللَّه صلة الأرحام منماة للعدد”8 من حيث جمع كلمتهم واجتماعهم كعائلة واحدة مترابطة متقوية ببعضها البعض في الشدائد والملمات.
الأثر الخامس: دفع البلاء
عن الباقر عليه السلام: “صلّة الأرحام تزكّي الأعمال وتنمّي الأموال وتدفع البلوى”9.
الأثر السادس: الراحة عند الموت
عن الهادي عليه السلام: “فيما كلّم اللَّه تعالى به موسى عليه السلام قال موسى عليه السلام: ما جزاء من وصل رحمه؟ قال: يا موسى أنسي له أجله وأهوّن عليه سكرات الموت”10.
ألا وإن هذا الموقف المخيف والذي ينتظرنا جميعاً حالة نزع الروح من الجسد لهو حقيق بأن نعدّ له هذه العدة التي وعدنا اللَّه تعالى بها كجزاء لصلة الرحم وليس من الصواب في شيء أن يكون الواحد منّا زاهداً بهذا العطاء وعازفاً عن هذا الجزاء.
الأثر السابع: حسن الخلُق
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “صلة الأرحام تحسّن الخلُق وتسمّح الكف وتطيّب النفس”11.
الأثر الثامن: العصمة من الذنب
حيث جاء في جملة من النصوص أن صلة الرحم من العوامل المساعدة للإنسان على ترك الذنوب والابتعاد عن مظانّ السوء والفحشاء وهي تشكّل درعاً واقية بسبب الأثر المترتب عليها الحاجز عن الوقوع في الهلاك مضافاً إلى أثر الصدقة والبّر.
عن الصادق عليه السلام: “إن صلّة الرحم والبّر يهوّنان الحساب ويعصمان من الذنوب، فصلوا أرحامكم وبرّوا بأخوانكم ولو بحسن السلام وردّ الجواب”12.
2- الآثار الأخروية لصلة الرحم:
الأثر الأول: يسر الحساب
إن الوقوف أمام نتائج الأعمال حينما توضع في ميزانها الذي أعدّه الباري سبحانه والتعرض للسؤال عن كل ما قدّمه المرء وأخّره، هما أمران غير يسيرين يحتاجان إلى إعداد وتحضير في هذا العالم ومما يدخل في هذه الدائرة صلة الرحم كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “صلة الرحم تهوّن الحساب وتقي ميتة السوء”13.
الأثر الثاني: جواز الصراط
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “حافتا الصراط يوم القيامة الرحم والأمانة، فإذا مرّ الوصول للرحم المؤدي للأمانة نفذ إلى الجنة وإذا مرّ الخائن للأمانة، القطوع للرحم لم ينفعه معهما عمل وتكفأ به الصراط إلى النار”14.
الأثر الثالث: الثواب الجزيل
حيث جاء عنهم عليهم السلام: “إنّ من مشى إلى ذي قرابة بنفسه وماله ليصل رحمه أعطاه اللَّه عزّ وجلّ أجر مائة شهيد، وله بكل خطوة أربعون ألف حسنة، ويمحى عنه أربعون ألف سيئة ويرفع له من الدرجات مثل ذلك وكأنما عبد اللَّه مائة سنة صابراً محتسباً”15.
آثار قطيعة الرحم:
وهي تنقسم أيضاً إلى قسمين: الأول: الآثار الدنيوية والثاني: الآثار الأخروية.
1- الآثار الدنيوية لقطيعة الرحم:
الأثر الأول: تعجيل الفناء
حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “أعوذ باللَّه من الذنوب التي تعجّل الفناء”، فقام إليه عبد اللَّه بن الكوّاء اليشكري فقال: يا أمير المؤمنين: أويكون ذنوب تعجّل الفناء؟ فقال عليه السلام: “نعم ويلك قطيعة الرحم”16.
الأثر الثاني: تعجيل العقوبة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ما من ذنب أجدر أن يعجّل اللَّه تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب”17.
الأثر الثالث: ضياع الأموال
فإنه مما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار”18.
الأثر الرابع: حلول النقمة وارتفاع الرحمة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الرحمة لا تنزل على قومٍ فيهم قاطع رحم”19.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “حلول النقم في قطيعة الرحم”20.
وهناك آثار أخرى لكن في هذه كفاية لردع عن ما عدّه الإسلام من كبائر الذنوب وتوعدّ عليه بالنار.
2- الآثار الأخروية لقطيعة الرحم:
إن الركون إلى القرآن الكريم لقراءة آياته التي تحدّثت عن مصير قاطع الرحم يغنينا عن تعداد الكثير من التفاصيل ويكفينا شاهداً لغده الأسود وحلول اللعنة عليه حيث يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾21 لذلك كان من جملة الذين لا يدخلون الجنة22 كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أ- صلة القاطع:
إن من الأمور غير السائغة لنا أن نبادل السيئة بالسيئة حينما نتعرض للهجران والجفاء من قبل أقاربنا بل الواجد تغليب الجانب الإيجابي بالصلة من طرفنا على الجانب السلبي بالقطيعة من طرفهم وهذا هو المنهج الذي أراده اللَّه تعالى في مقام التعامل معهم وعدّه من أحب الأعمال كما جاء عن زين العابدين عليه السلام: “ما من خطوة أحب إلى اللَّه عزّ وجلّ من خطوتين: خطوة يسدّ بها المؤمن صفاً في اللَّه، وخطوة إلى ذي رحم قاطع”23 وقال أبو ذر رضي الله عنه: أوصاني رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: “.. أن أصل رحمي وإن أدبرت”24.
ب- الرحم البعيدة:
قد نسأل أنفسنا أين تنتهي حدود الرحم فهل هي مختصة بطبقة من الأقارب دون الأخرى أو تشمل كل من ربطنا به النسب؟ والجواب لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: “لما أسري بي إلى السماء رأيت رحماً معلّقة بالعرش تشكو رحماً إلى ربها، فقلت لها: كم بينك وبينها من أب؟ فقالت: نلتقي في أربعين أباً”25.
ج- الرحم غير المؤمنة:
ويتجدد سؤال آخر أنه هل يشترط أن تكون الرحم مؤمنة أو مسلمة حتى يكون الوصل واجباً؟ إن هذا هو الذي سأله جهم بن حميد لمولانا الصادق عليه السلام فأجابه بالإثبات بعد سؤاله: “يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: نعم حق الرحم لا يقطعه شيء، وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقّان: حقّ الرحم وحقّ الإسلام”26.
* انت والمجتمع، سلسلة الدروس الثقافية، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- النساء:1.
2- محمد:22.
3- ميزان الحكمة، ح7060.
4- طلبة الطلبة، ص286.
5- تفسير الميزان، ج4، ص148.
6- ميزان الحكمة، ح7056.
7- م.ن، ح7054.
8- م.ن، ح7047.
9- م.ن، ح7043.
10- م.ن، ح7046.
11- م.ن، ح7044.
12- م.ن، ح7045.
13- م.ن، ح7053.
14- أصول الكافي، ج2، ص155، ح11.
15- مستدرك الوسائل، 2/641، باب 10.
16- ميزان الحكمة، ح7072.
17- م.ن، ح7078.
18- م.ن، ح7069.
19- م.ن، ح7076.
20- م.ن، ح7075.
21- الرعد:25.
22- ميزان الحكمة، ح7070.
23- م.ن، ح7066.
24- الخصال، 2/347.
25- مرآة الكمال، ج1، ص70.
26- نفس المصدر.