لنا في حديث الأئمة أهل البيت (ع) ثروة هائلة من الأدعية والمفاهيم الرقيقة والشفّافة في المناجاة.
اهتمام أصحاب الأئمة بتدوين الأحاديث
وكان أصحابهم رحمهم الله يحرصون حرصًا بليغًا على تسجيل ما يوصون به أصحابهم من الأدعية. روى السيد رضي الدين علي بن طاووس في مهج الدعوات عند ذكر دعاء “جوشن الصغير” المنسوب إلى الإمام موسى بن جعفر (ع) قال: روى أبو الوضاح محمد بن عبد الله بن زيد النهشلي عن أبيه عبد الله بن زيد الذي كان من أصحاب الإمام الكاظم (ع): قال عبد الله بن زيد أنه كان جماعة من خاصّة أبي الحسن الكاظم (ع) من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال فإذا نطق بكلمة أو أفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوه منه. من ذلك قال عبد الله فسمعناه وهو يقول في دعائه… وذكر الدعاء المعروف “جوشن الصغير” المرويّ عن موسى بن جعفر (ع)([1]).
الأصول الأربعمائة في الحديث
وقد دوّن أصحاب الإمام الصادق (ع) من حديثه أربعمائة مصنّف اشتهرت بالأصول الأربعمائة. يقول الشيخ أمين الإسلام الطبرسي (توفي سنه 548) في إعلام الورى: روى عن الإمام الصادق (ع) من مشهوري أهل العلم أربعة آلاف إنسان وصنَّف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب تسمّى الأصول([2]). وقد كان من دأب أصحاب الأصول رحمهم الله الاهتمام بضبط وتدوين ما يسمعونه من أئمّة أهل البيت (ع).
يقول الشيخ البهائي في “الشمسَين”: “قد بلغنا عن مشايخنا قدس أسرارهم أنّه كان من دأب أصحاب الأصول أنّهم إذا سمعوا عن أحد من الأئمّة (ع) حديثًا بادروا إلى إثباته في أصولهم لئلّا يعرض لهم نسيان لبعضه أو كلّه بتمادي الأيام”. ولذلك كانت هذه الأصول معتمدة من قبل الأصحاب، وإذا رووا عنها رواية حكموا بصحتها واعتمدوها. يقول المحقّق الداماد في الراشحة التاسعة والعشرين من رواشحه بعد ذكر الأصول الأربعمائة: “وليعلم أنّ الأخذ من الأصول المصحّحة المعتمدة أحد أركان تصحيح الرواية”.
وقد تعهّد عدد كبير من أصحاب الأئمّة (ع) لكتابة الأصول لا يمكن استيفاؤهم ولا استيفاء أصولهم. يقول الشيخ الطوسي رحمه الله في أول الفهرست: “وأنّي لا أضمن الاستيفاء؛ لأنّ تصانيف أصحابنا وأصولهم لا تكاد تضبط لكثرة انتشار أصحابنا في البلدان”. نعم لا يقلّ عددهم كما يقول المحقّق آقا بزرگ الطهراني في الذريعة عن الأربعمائة([3]).
يقول المحقّق الداماد في الراشحة المذكورة: “المشهور أنّ الأصول الأربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف من رجال أبي عبد الله الصادق (ع)، بل وفي مجالس السماع والرواية عنه ورجاله زهاء أربعة آلاف رجل وكتبهم ومصنّفاتهم كثيرة، إلّا أن ما استقرّ على اعتبارها والتعويل عليها وتسميتها بالأصول هذه الأربعمائة”.
حرق تراث أهل البيت على يد طغرل بيك
إلّا أنّ هذه الأصول مع طوائف كثيرة من تراث أهل البيت (ع) ومن ذلك كتب الأدعية تعرّضت للتلف في حادث حريق خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير (الوزير الشيعي الذي استوزره بهاء الدولة البويهي)، وقد كانت هذه الخزانة من أجلّ خزائن الكتب في ذلك العصر وأعمرها وأكثرها كتابًا. ذكرها الياقوت الحموي في معجم البلدان (الجزء 2، الصفحة 342) مادة بين السورَين فقال:
“إنّ بين السورَين في كرخ بغداد من أحسن محالها وأعمرها”؛ قال: “وبها خزانة الكتب التي وقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة ابن عضد الدولة البويهي، ولم يكن في الدنيا أحسن كتب منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحرزة واحترقت فيما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بيك أوّل ملوك السلجوقية إلى بغداد سنه 447 هـ وكان من هذه الكتب التي أحرقها طغرل بيك كتب الأدعيه المأثورة عن أهل البيت (ع)”.
يقول المحقق المتتبع الطهراني رحمه الله بعد نقل كلام الحموي في الياقوت: أقول: “ومن المظنون كون جملة من كتب هذه المكتبة الموقوفة للشيعة والمؤسسة لهم في محلّتهم كرخ بغداد هي الأصول الدعائيّة التي رواها القدماء من أصحاب الأئمّة (ع) عنهم. وقد صرَّح أئمّة الرجال في ترجمة كلّ واحد منهم بثبوت الكتاب له معبّرًا عنه بكتاب الأدعية وذاكرًا لطريق روايتهم لهذا الكتاب عن مؤلفه”([4]).
سلامة طائفة من تراث أهل البيت عن التلف
وقد اجتمعت طائفة من هذه الأصول عند شيخ الطائفة الشيخ أبي جعفر الطوسي (رحمه الله) لدى تأليفه الاستبصار والتهذيب ببغداد وكان تحت تصرف الشيخ رحمه الله عندئذ ببغداد مكتبتان حافلتان بأمّهات الأصول: إحداهما مكتبة سابور التي أسست لعلماء الشيعة بجانب الكرخ من بغداد، والأخرى خزائن كتب أستاذه الشريف المرتضى الذي كان يُقدَّر بثمانين ألف كتاب. وبقيت جملة من هذه الكتب إلى عصر ابن إدريس الحلّي رحمه الله واستخرج منها مستطرفات السرائر.
سلامة طائفة من مصادر الأدعية عن التلف
يقول المحقّق الطهراني آقا بزرك في الذريعة: “وبالجملة هذه الأصول الدعائية التي كانت في مكتبة شاپور بالعناوين العامّة أو الخاصّة، صارت كُلّها طُعمةً للنار كما شرحه ياقوت، لكنّا ما افتقدنا منها شيئًا إلّا أعيانها الشخصيّة الموجودة في الخارج، أمّا محتوياتها من الأدعية والأذكار والزيارات فقد وصلت إلينا بعين ما كان مندرجًا في تلك الأصول. وذلك لأنّه قبل تاريخ الاحتراق بسنين كثيرة قد ألّف جمع من الأعاظم الأعلام كتبًا في الأدعية والأعمال والزيارات، واستخرجوا جميع ما في كتبهم من تلك الأصول الدعائيّة.
وهذه الكتب المؤلّفة عن تلك الأصول قبل التحريق موجودة بعينها حتّى اليوم مثل كتاب الدعاء للشيخ الكليني المتوفّى سنه 329، وكامل الزيارات لابن قولويه المتوفّى سنة 360، وكتاب الدعاء والمزار للشيخ الصدوق المتوفى سنه 381، وكتاب المزار للشيخ المفيد المتوفى سنة 413، وكتاب روضة العابدين للكراجكي المتوفّى 449″.
الأدعية التي سلمت لنا بواسطة كتاب مصباح المتهجِّد
ومن المصادر الدعائيّة المأخوذة من تلك الأصول القديمة هو مصباح المتهجِّد لشيخ الطائفة الطوسي المتوفّى سنة 460؛ فإنّه بعد وروده إلى العراق في سنة 408 استخرج من الأصول القديمة التي كانت تحت يده بمكتبة سابور ومكتبة أستاذه الشريف المرتضى أحاديث الأحكام، فألَّف تهذيب الأحكام، وألَّف الاستبصار، وألَّف مصباح المتهجّد أيضًا في الأدعية والأعمال، واستخرج فيه من تلك الأصول مقدار ما يتحمَّله العُبّاد من المتهجّدين.
مصادر الأدعية التي وصلت إلى السيد ابن طاووس
وقد سلمت طائفة من مصادر الأدعية إلى القرن السابع من حريق مكتبة سابور بكرخ ووصلت إلى يد السيد رضي الدين بن طاووس رحمه الله المتوفّى سنة 664.
يقول: في الفصل الثاني والأربعين من كتابه كشف المحجة الذي ألفه لولده: “أنّه هيّأ الله جلّ جلاله لك على يدي كتبًا كثيرة… وهيّأ الله جلّ جلاله عندي عدة مجلدات في الدعوات أكثر من ستّين مجلّدًا”. وعندما كتب السيد ابن طاووس كتاب مهج الدعوات كان لديه نيفًا وسبعين مجلدًا من كتب الدعاء. يقول في آخر كتاب مهج الدعوات: “هذا آخر ما وقع في الخاطر… ولو أردنا إثبات أضعافه وكلّما عرفناه كنا خرجنا عما قصدناه فإن في خزانة كتبنا في هذه الأوقات أكثر من سبعين مجلدًا في الدعوات”.
وذكر السيد في كتابه اليقين الذي هو من أواخر تصانيفه “أنّه بلغت عدّةُ كتب الأَدعية عنده إلى سبعين كتابًا”([5]).
ألف وخمسمائة مصدر للحديث والدعاء عند السيد ابن طاووس
وعندما ألّف السيد كتابه الكبير في الدعاء الإقبال كان له على ما يقول الشهيد في مجموعته التي نقلها الجبعي عن خطّه، ألف وخمسمائة كتابًا وكان ذلك في سنة 650 هـ التي فرغ منها السيد رضي الدين بن طاووس رحمه الله من كتاب الإقبال. يقول الشهيد: “كان جرى ملكه على ألف وخمسمائة كتابًا في سنه 650”([6]).
خمسة عشر كتابًا للسيد ابن طاووس في الأدعية والأذكار
يقول السيد ابن طاووس في كتابه فلاح السائل إنّه بعد ما قرأ كتاب المصباح الكبير في الأدعية لجدّه لأمّه الشيخ أبي جعفر الطوسي، وجد فيه خيرًا كثيرًا، إلّا أنّه عثر على إضافات كثيرة لم يلحقه الشيخ الطوسي بكتابه فعزم على تأليف مستدرك على كتاب المصباح الكبير في خمسة عشر مجلّدًا باسم تتمات مصباح المتهجّد ومهمّات في صلاح المتعبّد. قال في مقدمة كتاب فلاح السائل:
“وها أنا مرتّب ذلك مستعينًا بالله جلّ جلاله في عدّة مجلّدات يحتسب ما أرجوه من المهمّات والتتمّات.
المجلّد الأوّل: أسميته فلاح السائل في عمل يوم وليله وهو مجلّدان.
والمجلّد الثالث: أسميته كتاب زهرة الربيع في أدعية الأسابيع.
والمجلد الرابع: أسميته كتاب جمال الأسبوع بكمال العمل المشروع.
والمجلد الخامس: أسميته الدروع الواقية من الأخطار.
والمجلد السادس: أسميته كتاب المضمار للسباق واللحاق.
والمجلد السابع: أسميته كتاب السالك المحتاج إلى معرفة مناسك الحجّاج.
والمجلد الثامن والتاسع: أسميتهما كتاب الإقبال بالأعمال الحسنة فيما نذكره مما يعمل ميقاتًا واحدًا كلّ سنة.
والمجلد العاشر: أسميته كتاب السعادات بالعبادات التي ليس لها وقت محتوم ومعلوم في الروايات بل وقتها بحسب الحادثات المقتضية والأدوات المتعلقة بها.
وإذا أتمّ الله جلّ جلاله هذه الكتب على ما أرجوه من فضله رجوت بأنّ كلّ كتاب منها لم يسبقني فيما أعلم أحدٌ إلى مثله، ويكون من ضرورات من يريد قبول العبادات والاستعداد للمعاد قبل الممات أجزاء، الجزء الأوّل: أسميته ـ “فلاح السائل ونجاح السائل في عمل يوم وليله“.
والجزء الثاني: أسميته كتاب “زهرة الربيع في أدعية الأسابيع“.
والجزء الثالث: أسميته كتاب الرجوع في زيارات وزيادات صلوات ودعوات الأسبوع في الليل والنهار.
والجزء الرابع: أسميته الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة واحدة كلّ سنة.
والجزء الخامس: أسميته كتاب أسرار الصلوات وأنوار الدعوات، وهذا الجزء الخامس إن أذن الله جلّ جلاله في تأليفه فإنّني أصونه مدة حياتي إلّا أن يأذن من له الإذن في بذله لأحد قبل وفاتي([7]).
مصادر الأدعية المتأخرة عن السيد ابن طاووس
يقول المحقق الطهراني آقا بزرك رحمه الله: “ثمّ إنّ جمعًا من العلماء قد أُلحقوا بما دوَّنه السيد ابن طاووس في تصانيفه كثيرًا من الأدعية والأعمال المنسوبة أيضًا إلى الأئمّة (ع) التي كانت مدرجة في الكتب القديمة الدعائيّة التي لم تكن عند السيد ابن طاووس وقد حفظت من الحريق والغرق والأُرضة والسوس حتّى وصلت إليهم، فأدرجوا تلك الأدعية في تصانيفهم الدعائيّة.
منهم الشيخ السعيد محمد بن مكّي الشهيد في 786 هـ؛ ومنهم الشيخ جمال السالكين مؤلف كتاب المزار الموجود، وهو أبو العباس أحمد بن فهد الحلي مؤلّف عدة الداعي، وكتاب التحصين في صفات العارفين المتوفّى 841 هـ؛ ومنهم الشيخ تقي الدين إبراهيم الكفعمي المتوفى 905 هـ، فإنه ألّف جنة الأمان الواقية والبلد الأمين ومحاسبة النفس وفي كلّها الأدعية والأذكار المأثورة عن الأئمّة، وصرّح في أوّل الجُنّة بأنّه جمعها من كتب معتمدة على صحّتها، مأمور بالتمسّك بعروقها وعدّ في الجُنة والبلد من مصادرهما نيّفًا ومائتين كتابًا، ينقل عنهما في متن الكتابَين، وكثير منها من الكُتُب الدعائية القديمة، منها روضة العابدين للكراجكي المتوفّى سنة 449. ومنهم الشيخ البهائي المتوفى سنة 1031، مؤلف مفتاح الفلاح. ومنهم المحدّث الفيض الكاشاني المتوفّى سنة 1091، مؤلّف خلاصة الأذكار. ومنهم المجلسي المتوفّى سنة 1111، وهو الذي جمع فأوعى فألّف بالعربية في مجلّدات البحار، وبالفارسيّة زاد المعاد، وتحفة الزائر، ومفتاح المصابيح، وربيع الأسابيع، ومفاتح الغيب([8]).
([1]) انظر، السيد ابن طاووس، مهج الدعوات.
([2]) انظر، الحسن بن الفضل الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى.
([3]) آقابزرگ الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة (بيروت: دار الرضواء)، الجزء 2، الصفحة 129.
([4]) المصدر نفسه، الجزء 8، الصفحة 174.
([5]) الذريعة، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 265.
([6]) المصدر نفسه، الجزء 2، 264 و265.
([7]) فلاح السائل، مصدر سابق، الصفحات 7 إلى 9.
([8]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة، مصدر سابق، الجزء 8، الصفحتان 179 و180.