التأمل في قضية الخوارج[1] الذين كانوا من المتعبدين المتنسّكين، بل يمضون الليل في العبادة، عندما أرسل الإمام عليّ عليه السلام ابن عباس[2] يوم النهروان ليبذل لهم النصح، عاد ابن عباس ووصفهم بقوله: “وَأَتَيْتُ قَوْمًا لَمْ أَرَ قَوْمًا قَطُّ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، مُسَهَّمَةٌ[3] وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ، كَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ وَرُكَبَهُمْ ثَفِنٌ[4]، عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ[5]”[6].
كان الخوارج متمسكين بأحكام الإسلام وظواهره أشدّ التمسك، يبتعدون عن كلّ ما كانوا يرونه إثمًا، كانت لهم معاييرهم الخاصة التي كانت تمنعهم من اقتراف أي مخالفة، وكانوا ينفرون ممّن يرتكب خطيئة. قتل زياد ابن أبيه أحد الخوارج، ثمّ استجوب خادمه عنه، فقال: “ما قدمت له طعامًا في النهار، ولا فرشت له فراشًا في الليل، فقد كان صائمًا نهاره وقائمًا بالعبادة ليله[7]”.
فلا جباههم المتقرحة من أثر السجود، ولا ملابسهم الرثّة وزهدُهم، ولا ألسنتهم الدائمة الذكر لله، فوقفوا في وجه إمام زمانهم، وأيضًا لم تستطع أن تغيّم على بصيرة أمير المؤمنين عليه السلام في قتالهم كلُّ ظواهرهم، وهو يدرك كلّ الإدراك أهمية عمله ذاك وعظمتَه. وفي ذلك يقول: “فَأَنا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي، بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا[8] وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا[9]”[10].
لأنهم لو تركوا ووطدوا أقدامهم، فإنّهم سيصيبون الآخرين بدائهم، ويجرون عالم الإسلام إلى التمسك بالظواهر والقشور وبالجمود الفكري والتحجر العقلي، حتّى يقصموا ظهر الإسلام، وهم من مصاديق قول أمير المؤمنين عليه السلام: “قَصَمَ ظَهري عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وجاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ، فالجاهِلُ يَغُشُّ النّاسَ بِتَنَسُّكِهِ، والعالِمُ يُنَفِّرُهُم بِتَهَتُّكِهِ[11]”[12]. وما أدقّ الوصف الّذي وصفهم به الإمام عليّ عليه السلام إذ يقول: “ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ، وَمَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ، وَضَرَبَ بِهِ تِيهَه”[13].
كيف أنظر إلى عبادتي؟
بأن يكون مفهوم العبادة شاملًا ومعناها واسعًا، ولا يقتصر على بعض الطاعات والأفعال والفرائض، فكلّ ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة إذا صحّت النية وأحبها الله وارتضاها فهي عبادة. فحركاتك وسكناتك وتعاملاتك إذا أحسنت النية فيها فهي عبادة، وكذلك أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، بل تبسّمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء، وصلة الأرحام وبر الوالدين، وحسن العشرة والأخوّة في الله، والصدق في الحديث، والتسامح مع الآخرين والصفح عنهم، وحسن الخلق، وتجنب مواطن الشبهة والريبة، إلى غير ذلك من التعاملات والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية.
وما أعظم الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ[14] صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ”[15]. وفي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: “تبسُّمُ الرجل في وجه أخيه حسنة، وصرف القذى عنه حسنة، وما عُبد الله بشيء أحبّ إلى الله من إدخال السرور على المؤمن”[16].
تذكرة لمن يخشى…، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] فرقة ظهرت في النصف الأول من القرن الأول الهجري، وفي مناسبة حرب صفين بالذات، التي دارت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الخليفة الشرعي من جهة، وبين معاوية بن أبي سفيان، الذي كان يحاول الاستئثار بهذا الأمر لنفسه من جهة أخرى، حيث رأى معاوية أن علياً سيربح الحرب لو استمرت، فأمر – بمشورة من عمرو بن العاص – برفع المصاحف، الأمر الذي انجرّ إلى التحكيم. وكان أولئك المعترضون على قبول علي للتحكيم هم أنفسهم الذين كانوا قد أجبروه عليه من قبل، كما اعترفوا به هم أنفسهم، وكما صرحت به النصوص التاريخية الكثيرة جداً، وهذا ما يكذّب ما يدعيه بعضٌ من أن الخوارج كانوا هم المعارضين للتحكيم من أول الأمر، وقد حكموا على علي عليه السلام بالكفر لأجل قبوله التحكيم، كما كفّروا عثمان بسبب بعض المخالفات التي صدرت عنه في السنين الأخيرة من خلافته، هذا فضلاً عن تكفيرهم طلحة والزبير وعائشة وغيرهم.
[2] من أصحاب الإمامين علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن بن علي عليه السلام. دَعى له النبي في مولده بالفقه والعلم، وكانت له المكانة الأولى في حقل التفسير. من جملة أقواله: “ما أخذت من تفسير القرآن فمن علي بن أبي طالب”. وإلى جانب العلم، ولي ابن عباس مهام الإفتاء والحرب في عهد الخلفاء الأربعة، وخاض المعارك كلها إلى جنب عليّ. تشهد سيرة ابن عباس بالحِرص على الولاء لعليّ والحسنين عليهم السلام.
[3] متغيرة من كثرة السهر.
[4] إن أيديهم من كثرة السجود صارت غليظة، وظهرت بها الآثار إلى خارجها من شدة بروكهم.
[5] أي مغسولة، وصف للملابس القديمة التي بليت من كثرة استعمالها وغسلها.
[6] البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي، السنن الكبرى، بيروت – لبنان، دار الفكر، لا.ت، لا.ط، ج8، ص179.
[7] ابن المبرد الحنبلي، جمال الدين يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن عبد الهادي الصالحي، الكامل، لا.م، لا.ن، لا.ت، لا.ط، ج 2، ص116.
[8] هو غيهب الفتنة)، أي ظلامها، وشمولها وإثارتها للشك. فقد كان ظاهر الخوارج على درجة من القدسية والتقوى بحيث إنّه كان يثير شك مؤمن نافذ الإيمان في صحة ما يقوم به عليّ عليه السلام، فكان هذا يخلق جواً من الغموض والظلام والشبهة والتردد.
[9] هكذا يصفهم الإمام عليّ عليه السلام. إنّهم كانوا كالكلاب المسعورة الّتي لا ينفع فيها دواء. فكانوا لا يفتأون يعضّون وينشرون البلاد، فيزداد عدد المسعورين.
[10] الرضي، السيد أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، بيروت – لبنان، لا.ن، 1387ه – 1967م، ط1، ص 137، الخطبة 92.
[11] (قصم ظهري) قصم الشيء أي كسره، وقصم ظهره أي أنزل به بلية، وضررًا كبيرًا. عالم متهتك)، والمتهتك هو المتجاهر بالمعصية، فهو مضافًا إلى أنه يفعل المعاصي ولا يراقب الله تعالى في ذلك، فإنه يتجاهر بها أمام الملأ، وهذه معصية أخرى، لأن ذلك يفضي إلى نشر الفساد وإشاعة المعاصي. وقوله: وجاهل متنسك)، وتنسكه إما بعبادته، ولكنه يتعبد بجهل وعدم معرفة، وهو بسبب حسن مظهره، وكثرة عبادته، يضلل الناس بجهله وقلة معرفته، أو أن المراد بتنسكه أنه لبس لباس العلماء والناسكين، فظن الناس أنه عالم، وليس بعالم، أو ناسك، وليس بناسك، فانخدعوا به. سهّل هذا الوضع عليه تضليلهم.
[12] راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص111، ح25، وفيه: قسم ظهري.
[13] السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام)، ص 184، الخطبة 127.
[14] أي إعانته.
[15] الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح سنن الترمذي)، تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف، بيروت – لبنان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1403ه – 1983م، ط2، ج3، ص228.
[16] الشيخ الكليني، الكافي، ج2 ص 188.a