أوصى إمام المتقين علي (عليه السلام) أهل بيته بإخفاء قبره بعد وفاته لعلمه بأن الأمر سيصير الى أعدائه من بعده, إذ إنهم لا يتورعون عن نبش القبر بغضاً وعداوة له.
وقد أجاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) سؤال أحد أصحابه وهو “صفوان الجمال” عن السبب الذي منع أهل البيت (عليهم السلام) من إظهار القبر, فقال (ع): ((حذراً من بني مروان والخوارج أن تحتال في أذاه)) [فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام: 226].
ونقل الشيخ جعفر محبوبه عن كتاب “منتخب التواريخ” انَّ الحجاج بن يوسف الثقفي حفر ثلاثة آلاف قبر في النجف طلباً لجثة أمير المؤمنين عليه السلام[ماضي النجف وحاضرها: 39].
وبيّن السيد ابن طاووس سبب الإخفاء قائلاً: (فاقتضى ذلك أن أوصى بدفنه (عليه السلام) سراً, خوفاً من بني أمية وأعوانهم والخوارج وأمثالهم, فربما إذا نبشوه مع علمهم بمكانه حمل ذلك بني هاشم على المحاربة التي أغضى عنها (عليه السلام) في حال حياته, فكيف لا يوصي بترك ما فيه مادة النزاع بعد وفاته؟ وقد كان في طَيِّ قبره فوائد لا تحصى غير معلومة لنا بالتفصيل) [فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام: 226].
ولم يزل مكان القبر الشريف في النجف سراً لم يطلع عليه إلاّ أهل البيت (عليهم السلام) والخواص من شيعتهم, اقتداءً بوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) من سنة أربعين من الهجرة وحتى سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية في عام 132هـ/749م. وبعد زوال الخوف والحذر أظهر الإمام جعفر الصادق (ع) القبر الشريف ودلَّ عليه شيعته وأمرهم بزيارته عندما ورد العراق بطلب من الحاكم الأول لبني العباس أبي العباس السفاح, إذ التقاه في الحيرة, وبنى الإمام عليه السلام على المرقد المقدس دكّة للدلالة عليه.
قال الشيخ المفيد بهذا الصدد: (فلم يزل قبره (عليه السلام) مُخفىً حتى دَلَّ عليه الامام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) في الدولة العباسية) [الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: 10] .
روى إسحاق بن جرير عن الامام أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) انه قال: ((إنيّ لما كنت بالحيرة عند أبي العباس, كنت آتي قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلاً, وهو بناحية نجف الحيرة، الى جانب غري النعمان, فأصلي عنده صلاة الليل وأنصرف قبل الفجر)) [فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام: 194] .
وقد تعددت زيارات الإمام الصادق (عليه السلام) لقبر جده سيد الأوصياء (صلوات الله عليه) في عهد الحاكم أبي جعفر المنصور العباسي, وفي إحدى هذه الزيارات أعطى الإمام عليه السلام صفوان الجمال مبلغاً من المال لإصلاح القبر. قال صفوان: (قلتُ: يا سيدي: أتأذن أن اخبر أصحابنا من أهل الكوفة به؟ قال نعم, وأعطاني دراهم, وأصلحتُ القبر) [فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام: 232] .
ومما يؤسف له إنَّ بعض المؤرخين من القدماء والمتأخرين قد وقعوا في الوهم عندما تناولوا الروايات الخاصة بمرقد أمير المؤمنين عليه السلام بدون تحقيق وتمحيص, فابتعدوا عن الحقيقة عندما ذكروا انَّ هارون العباسي هو أول من أظهر القبر في سنة 170هـ/786م أو 175هـ/791م عند تناولهم حكاية حادثة الصيد في منطقة النجف متجاهلين عن قصد أو دون قصد ما قام به الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في سنة 132هـ عندما كشف عن القبر وبنى دكة عليه, وحثَّ الناس على زيارته كما بينا ذلك فيما سبق. فأنّى لمن نصب العداء لأهل البيت (عليهم السلام) وظلم شيعتهم وسجن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) الى أن استشهد في محبسه مسموماً أن يعظّم مرقد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).
وقد شكّك الأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي في كتابه (مرقد وضريح أمير المؤمنين) بحقيقة العمارة المنسوبة لهارون (السفيه), فقال:(وإذا أعدنا النظر برواية ابن الطحال فسنراها بدون سند أو مصدر يؤيدها, بل أراها متدافعة لا تقوى على الصمود, فالضريح المقدس بنيت عليه غير بناية ما بين القرنين الثالث والسادس, واشتهرت من عماراته عمارة بقبة بيضاء هي عمارة عضد الدولة) [مرقد وضريح أمير المؤمنين عليه السلام: 143-144] .