لم يكن الإمام الرضا (عليه السلام) راغبا في أي من الخلافة، أو ولاية العهد؛ وما ذكرناه لا يبرر ذلك؛ حيث إنه لا يعدو عن أن يكون من الفوائد التي كان يمكن الحصول على بعضها من دون الدخول في هذا الأمر. والبعض الآخر لا يساوي في أهميته وخطره، ما سوف يجره الدخول في هذا الأمر من مآس ومشاكل، وما سوف يترتب عليه من آثار سيئة وخطيرة.
وقد قدمنا في الفصل السابق البيان الكافي والوافي، لما سوف يعترض طريق الإمام (عليه السلام) من عقبات في الحكم؛ لو أنه كان قبل عرض الخلافة، وكيف ستكون النهاية له، ولنظام حكمه..
وهو يوضح لنا أيضا حقيقة حاله، ونظام حكمه لو أنه قبل ولاية العهد أيضا؛ إذ أنه (عليه السلام) كان يعلم: أن وصوله للخلافة، وتسلمه لأزمة الحكم والسلطان تعترضه عقبات صعبة، وأهوال عظيمة، لن يكون من اليسير التغلب عليها، وتجاوزها.
فلقد كان يعلم ـ كما أظهرت الأحداث والوقائع بعد ذلك ـ أنه لن يسلم من دسائس المأمون وأشياعه، بحيث يبقى محتفظاً بحياته، أو على الأقل بمركزه، إلى ما بعد وفاة المأمون، ولم يكن يشك في أن المأمون سوف يقدم على كل غريبة؛ من أجل التخلص منه، وتصفيته، إن جسديا، وان معنويا..
بل.. وحتى لو أن المأمون لم يقدم على أي عمل، فإن آماله بالبقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون، وهو بهذه السن المتقدمة، بالنسبة لسن المأمون.. كانت ضعيفة جدا، لا تبرر له الاقدام على قبول مثل هذا الأمر، إلا إذا كان يريد أن يعطي الناس انطباعا عن نفسه، بأنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه، كما كان يريد المأمون!!!
ومع غض النظر عن كل ذلك.. فإنه لو قدر له البقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون، فلسوف يصطدم بتلك العناصر القوية ذات النفوذ، والتي لن ترضى عن سلوكه في الحكم بصورة عامة، وفوق ذلك كله، لسوف يصطدم بمؤامرات العباسيين، وأشياعهم، والذين كانوا على استعداد لأن يعملوا المستحيل للحيلولة بينه وبين ذلك، ولو تمكن من ذلك؛ فلسوف لا يدخرون وسعا، ويجندون كل ما لديهم من طاقة وقوة وحول؛ من أجل زعزعة حكمه، وتقويض سلطانه، وخلق المشاكل الكثيرة له؛ لتضاف إلى ذلك الركام الهائل من المشاكل التي كانت تواجه الحكم..
إنهم سوف لا يمكنونه من قيادة الامة قيادة صالحة، وسليمة وحكيمة؛ وليمنى ـ من ثم ـ بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة..
ولسوف يجدون هناك مرتعا خصبا لمؤامراتهم، ودسائسهم في تلك الدولة المترامية الأطراف، الطافحة بالمشاكل، وذلك عندما يجدون أن الإمام (عليه السلام) لن يرضى إلا أن يحكم بحكم جدّيه محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام). وأن الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم سوف لا يكونون مستعدين لتقبل حكم كهذا. ولا أن ينقادوا لحاكم يريد منهم ذلك، ويخضعوا لارادته، بعد أن كانوا قد اعتادوا على حياة الخلفاء الامويين، والعباسيين، المليئة بالانحرافات والموبقات..
اللهم إلا أن يقوم الإمام (عليه السلام) في فترة ولاية العهد، أو بداية حكمه بإعداد مسبق، وتعبئة عامة وشاملة، على جميع المستويات، وفي مختلف المجالات.. ولن يفسح العباسيون، والمأمون، وأشياعهم له المجال للقيام بذلك الإعداد، وتلك التعبئة مهما كلفهم ذلك من تضحيات.
فالسلبية إذن هي الموقف الصحيح:
وبعد كل ما تقدم: فإن من الطبيعي أن لا يفكر الإمام (عليه السلام) في الوصول إلى الحكم عن مثل هذا الطريق الملتوي، والمحفوف بالأخطار، والذي لن يحقق له أي هدف من أهدافه. بل على العكس: سوف يكون موجبا للقضاء عليه، وعلى كل آماله، وكل العلويين، والمتشيعين لهم، ويحقق فقط آمال الآخرين، وأهدافهم.. ولسوف يكون إقدامه على عمل من هذا النوع عملا انتحاريا، لا مبرر له، ولا منطق يساعده.
لا بد من خطة لمواجهة الموقف:
وأخيرا.. وإذا كان لم يكن للرضا (عليه السلام) خيار في قبول ولاية العهد.. وإذا كان لا يمكن أن يقبل بأن يجعل وسيلة لتحقيق أهداف، وآلة يتوصل بها إلى مآرب يمقتها، ويكرهها كل الكره؛ لعلمه بما سوف يكون لها من آثار سيئة وخطيرة، على حاضر الامة، ومستقبلها، وعلى مستقبل هذا الدين. وكذلك لا يمكنه أن يسكت، ويظهر بمظهر الموافق، والمؤيد، والمساعد..
فإن كل ما يمكن له أن يفعله ـ بعد هذا ـ هو أن يضع خطة، يستطيع بها مواجهة مؤامرات المأمون، وإحباط مخططاته؛ حتى لا يزداد الوضع سوءاً، والطين بلة..
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) – بتصرّف، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي (قدس سره)