Search
Close this search box.

ويسألونك عن ذي القرنين (1)

ويسألونك عن ذي القرنين (1)

قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً*إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً*فَأَتْبَعَ سَبَباً*حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً*قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً*وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً*ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً*حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً*كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً* ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا* قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا*قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا* آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ (سورة الكهف: 83 91)

* قصة ذي القرنين المدهشة
تتمحور قصة ذي القرنين حول شخص شغل أفكار الفلاسفة والباحثين منذ أقدم العصور حتّى الآن وبذلوا جهوداً كبيرة للتعرف إليه. سنقوم بتفسير الآيات المتعلقة به وهي في مجموعها ست عشرة آية. وبغض النظر عن الجوانب التاريخية فهي تمثّل بحدِّ ذاتها دروساً مليئة بالعبر. تقول الآية الأولى حول قصته: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً﴾. (الكهف: 83) وصدر هذه الآية يدلّ على أن قصة ذي القرنين كانت مطروحة بين الناس سابقاً، وكان يثار حولها الكثير من الاختلافات واللغط والإبهامات، لذا توجّه الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليطلبوا منه توضيحات لازمة في هذا المجال، ويضيف تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾. (الكهف: 84) ومن الواضح أنَّ معنى السبب في الآية مطلق وله مفهوم واسع يدل على أنَّ الله عزَّ وجلَّ جعل بتصرّف ذي القرنين أسباب الوصول إلى أي أمر، مثل العقل والدراية الكافية والإمكانات المادية، أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد جعل في تصرفه من الوسائل المعنوية والمادية ما يعينه في تقدّمه وتحقيق أهدافه. ثمَّ تضيف الآيات قائلة: ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً﴾ (1) (الكهف: 87) إذ إنَّ الظالمين ينالون عقابهم في الدنيا وفي الآخرة، وتستمر الآيات حتّى قوله تعالى: ﴿مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾ (الكهف: 88) حيث سنعامله بأسلوب حسن، ونخفّف عنه الأعباء الثقيلة ونمتنع عن جباية الخراج والضرائب المرهقة منه.

ويعلم من المقابلة بين قوله: ﴿مَنْ ظَلَمَ﴾ وقوله: ﴿مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ أنَّ الظلم في هذه الآية بمعنى الشرك. والعمل غير الصالح هو من الثمار المرَّة لشجرة الشرك. واستمر ذو القرنين في سفره إلى الغرب، ثمّ عزم على التوجه إلى الشرق، ويعبِّر عنه القرآن الكريم كما يلي: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً*حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً﴾ (الكهف: 89 90). وقد كان هؤلاء القوم في مرحلة بدائية من الحياة الإنسانية يعيشون عراة أو شبه عراة لا يغطّي أجسادهم إلا ما يكفيهم قليلاً للستر من الشمس. واحتمل بعض المفسِّرين أنَّهم كانوا يفتقرون إلى المأوى الذي يقيهم من الشمس (2). ثم يضيف تعالى: ﴿كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً﴾ (الكهف: 91). وقد احتمل بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أن الجملة المذكورة إشارة إلى الهداية الإلهيّة لذي القرنين في برامجه ومساعيه(3).

* كيف بُنِيَ سدّ ذي القرنين؟
وتكمل الآيات القرآنية مشيرة إلى أحد أسفار ذي القرنين، حيث تقول: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً*َ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً﴾ (الكهف: 93) وهم غير الذين شاهدهم في الشرق والغرب وكانوا يعيشون في مستوى متدنٍّ من الحضارة، لأنَّ اللغة إحدى أوضح علائم الحضارة الإنسانية. كما احتمل آخرون أن المقصود من جملة ﴿لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ﴾ ليس بمعنى أنهم لم يكونوا يعرفون اللغات المعروفة آنذاك، بل لم يكونوا يدركون مضمونها، أي كانوا متخلِّفين من الناحية الفكرية. أما عن مكان ذينك الجبلين، فإننا كما هو بالنسبة لسائر الأبعاد التاريخية الجغرافية لهذه القصة سوف نبحث فيها في نهاية التفسير.

كان هؤلاء القوم يعانون من أعداء سفَّاكين للدماء ومتوحشين يطلق عليهم ﴿يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾. فاستغلوا في الأثناء فرصة قدوم ذي القرنين الذي يتمتع بقدرات وإمكانات عظيمة والتجأوا إليه قائلين: ﴿يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا﴾ (الكهف: 94) وفيه إشارة إلى أنَّه على الرغم من عدم فهمهم لغة ذي القرنين، فإنِّهم استطاعوا على الأقل عن طريق الإشارات والعلامات أو عبر لغة ناقصة لا يعتدّ بها نقل ما يريدون إليه.

على أيِّ حال، يستفاد من هذه الجملة أنَّ هؤلاء القوم كانوا يتمتعون بإمكانات اقتصادية جيدة، ولكنَّهم كانوا عاجزين من حيث الصناعة والفكر والتخطيط، فتقبّلوا أن يتحملوا أعباء بناء هذا السد، بشرط أن يتكفَّل ذو القرنين بنفسه مشروع تخطيطه وبنائه. أما ذو القرنين، فاستجاب لطلبهم: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ (الكهف: 95). ثم أمر ذو القرنين بما يلي: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾، أي القطع الضخمة والكبيرة من الحديد. وعندما هُيئت قطع الحديد تلك، أمر بأن تركم فوق بعضها بعضاً حتّى تملأ ما بين الجبلين ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ والصدف هنا معناه (سفح الجبل). ومن هذا التعبير يتضح أنّه كان يوجد شقّ وخرق بين سفحي الجبل يدخل منه يأجوج ومأجوج فقرر ذو القرنين أن يملأه.

أمّا الأمر الثالث الذي أصدره ذو القرنين فكان ما يلي: ﴿قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً﴾ حيث أمرهم بإحضار المواد القابلة للاحتراق كالحطب وغيره، وجعلها على جانبي السد، ثم أمرهم أن ينفخوا فيها لتحمرّ ناراً بالوسائل التي عندهم، وفي الحقيقة فقد أراد بهذا الأسلوب أن تلتحم قطع الحديد بعضها ببعض، ويتحوّل السد إلى كتلة واحدة؛ ثم أصدر في النهاية أمراً: ﴿قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ (الكهف: 96) وبهذا الشكل غطّى ذلك السد الحديدي بطبقة من النحاس ليحميه من اختراق الهواء والتآكل والتصدع!.

المشهور في معنى (القطر) أنه النحاس المذاب، ولكن فسَّر بعض المفسِّرين ذلك بالرصاص المذاب وهو خلاف المعروف. وقد تمخَّض عن إنجاز بناء هذا السد القوي والمحكم، عدم تمكّن يأجوج ومأجوج من اختراقه أو إيجاد ثقب فيه للنفاذ عبره، يقول تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً﴾ (4) (الكهف: 97). إن ذا القرنين بعد قيامه بهذا العمل العظيم، قال في منتهى الأدب أمام الله: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾؛(الكهف: 98) لأنّه كان رجلاً إلهياً. فقد أراد أن يقول: ولا أدّعي شيئاً لنفسي يدعوني للاعتزاز به، ولم أعمل شيئاً مهماً لأمنّ على عباد الله فكل ما عملته من الله عز وجل. ثم أضاف جملة أخرى: ولا تظنّوا أنَّ هذا السد خالد وأبديّ ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً﴾ (الكهف: 98). وفي كلامه هذا أشار ذو القرنين إلى مسألة فناء الدنيا وانهيار هذا السدِّ على أعتاب يوم القيامة.

(1) (نكر) من مادة منكر بمعنى غير المعروف أي عذاب غير معروف يمكن تصديقه.
(2) وفي بعض الروايات الواردة، عن أهل البيت عليهم السلام حيث فسروا هؤلاء بالتفسير الأوّل كما فسروا بالتفسير الثاني مع أنّه لا منافاة بين التفسيرين، راجع تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 306.
(3) الميزان الطباطبائي ج 13، ص 391.
(4) (اسطاعوا) أصلها (استطاعوا) حُذفت تاء باب الاستفعال.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل