حسينية الإمام الخميني (قده)… لم آتِ إلى هنا منذ ثلاث سنوات أو أربع. خالية من الأشخاص ومليئة بالكراسي. يبدو أن «كورونا» حوّلت هذه الحسينية إلى حسينية «إرشاد» حيث كان الحضور قديماً يجلسون على الكراسي.

عندما أرى أسماء الأشخاص والوجوه المهمة في اللقاء، يصير أكثر أهمية بالنسبة إليّ: السيد علي فضل الله، نجل العلامة [محمد حسين] فضل الله، والشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام لحزب الله، والشيخ حسين المعتوق، العالم الشيعي الكبير من الكويت، والشيخ همام حمودي، رئيس «المجلس الإسلامي الأعلى في العراق»، وعبد المنعم الزين، اللبناني الذي ذهب إلى السنغال بناء على توصية الإمام موسى الصدر، وكثيرون من العلماء والشخصيات الأخرى من مختلف البلدان، الذين اجتمعوا في حسينية الإمام الخميني.

يدخل الضيوف رويداً رويداً. تنوّع الضيوف وهم مختلفون تماماً: بيضٌ بعمامات سوداء، وسُمرٌ بعمامات بيضاء. واحد من الهند وواحد من إندونيسيا وواحد من اليابان وواحد من أستراليا وآخر من فرنسا وآخر من نيجيريا وآخر من أمريكا اللاتينية. يا له من جمع متنوع هذا الجمع!

في النهاية هذا ليس لقاءً عادياً. إنه لقاءٌ دولي مع ضيوف مختلفين. إنه اجتماع لمجمع عالمي حيث الكل لديهم قاسم مشترك مهم: اتّباع مدرسة أهل البيت (ع).

عام 1990، اجتمعت مجموعة من العلماء وأتباع مدرسة أهل البيت (ع)، وبعد أيام من النقاش والتفكير، اقترحوا إنشاء هذا المجمع على قائد الثورة الإسلامية، الإمام الخامنئي، والآن صار يضم المجمع عشرات الممثلين من 117 دولة في العالم موزّعة على قارات العالم الخمس، وهذا الانتشار يضفي أهمية كبرى على اللقاء.

يتزايد تنوّع الحضور أكثر مع مرور كل لحظة. أحدهم يتحدث الفرنسية والآخر الإنكليزية والآخر العربية والآخر التركية. يوزعون عند مدخل الحسينية سماعات للترجمة الفورية لكن قلة من يأخذون هذه السماعات!

لقد وصلت الشخصيات البارزة أيضاً. استغل الشيخ نعيم قاسم الفرصة وراح يقرأ القرآن. ربما كانت هذه الأيام مزدحمة بالأعمال بالنسبة إليه لأنه في قلب المقاومة (في لبنان).

قبل بضع سنوات، كان الشيخ الزكزكي هنا أيضاً، لكننا اليوم نفتقد حضوره.

على الجانب الآخر، في آخر الحسينية، أرى وجوهاً لا ينبغي ذكرُ أسمائها. لعل الصهاينة والوهابيين، الذين يخافون من وحدة الأمة ومحاربة إسرائيل، سيتسببون لهؤلاء الأشخاص أيضاً في البلاء نفسه الذي حل بالشيخ الزكزكي.

يدخل قائد الثورة إلى الحسينية، فينهض الجميع شوقاً للقائه. بعض الأشخاص يريدون أن يتقدموا إلى الأمام، ولكن قبل بضع دقائق فقط أكدوا أنه يجب اجتناب التقدم.

يبدأ بعض الأشخاص إنشاد الشعر قبل بدء تلاوة القرآن. ثمة شخص يهتف للقائد بلهجة عربية أفريقية أو ربما عربية سواحيلية: «اضرب كل الطغاة». شخص آخر من موطنه أو قارته نفسها لديه صرخة أبلغ. يتحدث عن الحاج قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، عن قادة النصر، ويؤكد أن هذا القائد الحكيم لا يزال على طريق الحق ويسير على نهج الإمام الخميني.

هذه المرة الشاعر السيد عبد الله الحسيني، وهو ذو دراية بأهل أفريقيا وكان المستشار الثقافي الإيراني لسنوات طويلة في جوهانسبرغ ولديه علاقات وطيدة مع علماء تلك الديار، يتحرك من وسط الجموع نحو مقدمة الحسينية، وفي الوقت نفسه يقرأ أبيات شعر بإحساس ومزاج شاعري.

ثم استُهلت المراسم بتلاوة القرآن وتقرير حجة الإسلام رمضاني، وهو الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت (ع). أحد الحضور أمامي بقليل يحمل قطعة قماش بطريقة مثيرة للاهتمام. ألاحظ أنها تشبه اللافتة المكتوب عليها «يا حسين» أو «لبيك يا حسين» أو «لبيك يا خامنئي».

يبدأ خطاب القائد وثمة سؤال باقٍ في ذهني: لماذا لا يحتاج كثيرون من هؤلاء الأشخاص الذين تجمعوا من أنحاء العالم كافة وبلغات مختلفة إلى سماعات الترجمة الفورية؟

في البداية، تحدث القائد عن أهمية هذا اللقاء ومكانة المجمع العالمي لأهل البيت (ع). المكانة المهمة وفق قوله ليست مكانة مذهبية مقابل مذهب آخر، بل مكانة جمع مناضل لإزالة الخطوط الفاصلة والتحرك نحو الوحدة: «تتطلب أهمية عملكم أخذ هذه الجملة، “كونوا لنا زيناً”، بالاعتبار أكثر لدى هذا المجمع ومجموعة الأشخاص والأفراد في هذا المجمع نفسه».

يتحدث سماحته عن الخطوط الفاصلة. الخطوط الفاصلة التي أزالها الإمام الخميني والثورة: «الإمام [الخميني] الراحل (رض) علّم الجميع أن يضعوا جانباً الخطوط الفاصلة بين أفراد المجتمعات الإسلامية. هناك خط فاصل واحد فقط هو الفاصل بين الإيمان والإسلام، وبين الكفر والاستكبار. الإمام علّم هذا للجميع. تلك الخطوط الفاصلة التي علّمنا الإمام أننا يجب أن نضعها جانباً هي الخطوط الفاصلة الطائفية، والخطوط القومية، والخطوط العرقية، والخطوط الحزبية، وأمثالها. قال: اتركوا هذه الأمور جانباً. هناك خط فاصل هو الفاصل بين تحقق الإسلام والنظام الإسلامي والتجسيد السياسي للإسلام مقابل نظام الهيمنة الذي على رأسه أمريكا».

يقول سماحته إننا يمكننا الوقوف ضد العداوات والبغضاء: «يُطرح سؤال: هل نحن قادرون؟ هل نحن قادرون على المواجهة؟ جوابي هو طبعاً، ومئة بالمئة، نعم، نحن قادرون. قدرات العالم الإسلاميّ من أجل إيقاف الاستكبار ومن ثَمّ دفع عالم الهيمنة والاستكبار إلى الوراء قدرات مميّزة جدّاً، القدرات على المستوى البرمجي والصّلب أيضاً. القدرات على المستوى البرمجي هي معارفنا ومعتقداتنا. رؤيتنا للعالم رؤية مفعمة بالأمل، ورؤيتنا لمسار التاريخ وحركة التاريخ رؤية واضحة، رؤية مفعمة بالأمل. نحن نرتكز إلى قدرة عظيمة، وهي تمنحنا القوّة والأمل. نحن أهل التوكّل على الله».

لكن سماحته لا يزال قلقاً بشأن عودة تلك الخطوط الفاصلة التي تم محوها: «من الجهود التي يجب الاهتمام بها كثيراً أنّ الاستكبار يريد أن يعكس هذه الحدود التي رسّمها الإمام [الخميني] الراحل، أي تسليط الضوء على الخطوط الفاصلة في العالم الإسلامي عبر الحرب الشيعية-السنية، وحرب العرب والعجم، وأحياناً الحرب الشيعية-الشيعية والحرب السنية-السنية، التي ترونها الآن أمام أعينكم في بلدان مختلفة. [حرب] فصيل سني مع فصيل سني، وفصيل شيعي مع فصيل شيعي! هذه أعمال الاستكبار، وهذه أعمال أمريكا. إن ذلك بسبب تحريضهم وتخطيطهم، وهو موجود، للأسف. لا بدّ من الحذر».

الخط الفاصل لهذه الحسينية هو الخطوط الفاصلة جراء «كورونا». لولاها، لكان هؤلاء جالسين كلهم إلى جانب بعضهم بعضاً ويستمعون لكلام قائد الثورة كتفاً إلى كتف. مع ختام المراسم، الذي رافقه تذكير القائد بدور المجمع العالمي لأهل البيت (ع) في قضايا عالم اليوم، وضرورة تأدية دور أكبر، لا يزال لدي هذا السؤال: لماذا لم يطلب كثيرون من هؤلاء سماعات الترجمة الفورية؟

نخرج وأسال أحدهم: لغتكم هي العربية، فكيف فهمتم كلام القائد في حين لم تستخدموا سماعات الترجمة الفورية؟ يجيب بالفارسية وبلحن جميل: لغة الثورة الإسلامية هي الفارسية. لقد أحببت هذه اللغة وتعلمتها.

يا لها من وحدة مذهلة عشتها اليوم: التعددية في اللون والعرق، التي كان من الممكن أن تكون مصدراً للاختلاف والفواصل، وليس المذهب الشيعي فقط بل الإيمان بنضال طويل لأجيال متمادية، هو ما خلقَ الوحدة. ربما لم يكن من الضروري أن يتعلم هؤلاء الفارسية لكنهم سعوا إلى تعلمها من أجل النضال في ذلك الطريق.

ثم أتذكر كلام القائد حين أكد: «نحن لم نطلب من الدول أبداً أن يتّبعوا النموذج والشكل السياسي لنظامنا. كلّا! لم نقل هذا إطلاقاً لأي دولة ولن نقوله. كلامنا: يجب أن تعملوا وفق أصول الشريعة الإسلامية، وهذا [يتطابق مع] الآية التي قرأتها، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح، 29)، في سورة الفتح، فهي من هذا القبيل. هذه أصول إسلامية. وإن شاء الله، فسوف نقف ضد التفرقة في المستقبل أيضاً، ولا نزال واقفين اليوم».