Search
Close this search box.

الإمام الصادق (عليه  السلام) والإعراض عن الدنيا

الإمام الصادق (عليه  السلام) والإعراض عن الدنيا

إن الزهد في الشيء الإعراض عنه، وإنما يكون للزهد شأن يكسب الزاهد فضلا اذا كان المزهود فيه ذا قيمة وثمن كبير، وأمّا اذا كان المزهود فيه بخسا لا شأن له يحتسب، ولا قدر يعرف فلا فضل في الزهد فيه، أترى أن الزهد في الشابّة النضرة الخلوق التي جمعت ضروب المحاسن والجمال وفنون الآداب والكمال، مثل الزهد في الشوهاء السوداء العجوز؟ ولا سواء.

الامام الصادق والإعراض عن الدنيا
فإنما يكون الزهد في الدنيا والإعراض عن لذائذها وشهواتها ذا شأن يزيد المرء قدرا ورفعة، ويكشف عن نفس زكيّة نقيّة، إذا نظرها فوجدها حسناء فاتنة الشمائل، فولاّها ظهره معرضا عن جمالها، صافحا عن محاسنها طالبا بهذا الإعراض ما هو أفضل عند الله وأطيب، وأمّا اذا تجلّت لديه سافرة النقاب مجرّدة الثياب، واختبرها معاشرة وصحبة، فرآها شوهاء عجفاء، بارزة العيوب، قبيحة المنظر، سيّئة المخبر والمعشر، لا تفي بوعد، ولا تركن الى عهد، ولا تصدق بقول، ولا تدوم على حال، ولا يسلم منها صديق، فكيف لا يقلاها ساخطا عليها متوحّشا منها، وكيف لا ينظرها بمؤخّر عينيه نظر المحتقر الملول.

وإننا على قصر نظرنا، وقرب غورنا، لنعرف حقّا أن حياتنا هذه وإن طالت صائرة إلى فناء، وعيشنا وإن طاب آئل الى نكد، وإننا سوف ننتقل من هذه الدار البائدة الى تلك الدار الخالدة، ومن هذا العيش الوبيل الى ذلك العيش الرغيد، وإن كلّ لذّة في هذه الحياة محفوفة بالمكاره، وكلّ عيش مشوب بالكدر، وإن هذه الأيام الزائلة مزرعة لهاتيك الأيام الباقية، وهل يحصد المرء غير ما يزرع، ويجازي بغير ما يفعل، وهل يجمل بالعاقل البصير أن يفتن بمثل هذه الحياة واللذائذ؟.

نعم إنما يحملنا على الافتتان بهذه العاجلة والصفح عن تلك الحياة الآجلة مع فناء هذه وبقاء تلك، امور لا يجهلها البصير وإن لم تكن عذرا عند مناقشة الحساب، ألا وهي حبّ العاجل، وضعف النفس، ونضارة هذه المناظر والزينة اللتان نصبتهما الدنيا فخاخا وحبائل، ولو شاء الانسان ـ وإن كان أضعف الناس بصرا وبصيرة ـ أن ينجو من هذه الشباك لكان في مقدوره، فكيف بأقوى الناس عقلا وأثبتهم يقينا، وأدراهم بالحقائق، حتّى كأنّ الأشياء لديه مكشوفة الغطاء بل لو كشف لهم الغطاء لما ازدادوا يقينا.
فإعراض محمّد وآل محمّد عليه وعليهم الصلاة والسلام عن هذه الحياة الدانية ورغائده إلاّ بقدر البلغة لتلك الحياة الباقية، إنما هو لأنهم يرونها أخسّ من حثالة القرظ وأنجس من قراضة الجلم([1]) فما كانوا عليه شيء غير الزهد، بل هو أعلى من الزهد، غير أن ضيق المجال في البيان يلجئونا الى تسميته بالزهد، تنظيرا له بما نعرفه من نفائس هذا الوجود ومن الإعراض عنها.

فلا نستكبر بعد أن نعرف هذا عن محمّد وعترته ما يرويه أهل الحديث والسيرة والتأريخ عن صادقهم أنه كان يلبس الجبّة الغليظة القصيرة من الصوف على جسده والحلّة من الخزّ على ثيابه، ويقول: نلبس الجبّة لله والخزّ لكم([2]).

أو يرى وعليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه، وفوقه جبّة صوف، وفوقها قميص غليظ.

أو يطعم ضيفه اللحم ينتفه بيده، وهو يأكل الخلّ والزيت ويقول: إن هذا طعامنا وطعام الأنبياء([3]) الى أمثال ذلك من مظاهر الزهد.

إن من قبض عنان نفسه بيده وتجرّد عن هذه الفتن الخدّاعة في هذه الحياة، واتجه بكلّ جوارحه لرضى خالقه يستكثر منه اذا روت الثقات عنه هذا وأشباهه.

وما كان غريبا ما يروى من دخول سفيان الثوري([4]) عليه، وكان على الصادق (عليه السلام) جبّة من خز، وقول سفيان منكرا عليه: إنكم من بيت نبوّة تلبسون هذا، وقول الصادق (عليه السلام): ما تدري أدخل يدك، فاذا تحته مسح من شعر خشن، ثمّ قال (عليه السلام): يا ثوري أرني ما تحت جبّتك، فإذا تحتها قميص أرقّ من بياض البيض، فيخجل سفيان ثمّ يقول له الصادق (عليه السلام): يا ثوري لا تكثر الدخول علينا تضرّنا ونضرّك([5]).

وأمثال هذا ممّا روي عنه جمّ كثير، نحن في غنى عن سرده، فإنّ سادات أهل البيت أعلى كعبا، وأرفع شأنا، من أن تحسب مثل هذه الشؤون فضائلهم الجليلة.

وأمّا سفيان فجدير بالامام ألاّ يرغب في دنوّه ما دام يخالفه في رأيه وسيره وعمله وعلمه، وأمّا الضرر على الامام وعليه من دخوله على الامام، فلأن السلطان قد وقف للإمام بالمرصاد، لا يريد أن يظهر له شأن ولا أن يكثر عليه التردّد، فالدخول عليه يجعل الإمام معرّضا للخطر، ويجعل الداخل معرّضا للأذى، لا سيّما اذا كان الداخل ذا شأن ومقام بين الناس كسفيان الثوري.
الامام الصادق والإعراض عن الدنيا
الإمام الصادق (عليه السلام)، الشيخ محمد الحسين المظفر (قدس سره)


([1]) القرظ: ورق السلم، والجلم: ما يجز به..
([2]) لواقح الأنوار للشعراني عبد الوهاب بن أحمد الشافعي: 1 / 28، ومطالب السؤل..
([3]) الكافي: 6 / 328 / 4..
([4]) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي الشهير وله رواية عن الصادق (عليه السلام) ولد أيّام عبد الملك، ومات بالبصرة عام 161..
([5]) لواقح الأنوار ومطالب السؤل وحلية الأولياء: 3 / 193 وقد روي إنكاره على الإمام حسن بزّته من طرق عديدة وفي كيفيّات عديدة، ولعلّها كانت متعدّدة، فلا يمتنع في الثانية بعد جوابه في الأولى، وممّن روى ذلك أبو نعيم في حلية الأولياء: 3 / 193 وقد ذكرنا مناظرة الصادق (عليه السلام) الطويلة في الزهد مع سفيان وجماعته في اخريات حياته العلميّة..

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل