الشهيد السيّد عبد الحسين دستغيب
بعد التدقيق في معرفة منشأ أنواع فساد المجتمع البشريّ المتزايدة يوماً بعد يوم، فليُعلم أنّ كلّ فتنة، وفساد، وخيانة، وجناية تصدر عن أيّ شخص سببها نوعٌ من أنواع مرض النفس ونقص “الإنسانيّة”. فما هي خطورة هذه الأمراض النفسيّة؟ وكيف عالجها القرآن الكريم؟
* الحسد نموذج لمرض القلب
في الماضي، ذكرت بعض الصحف أنّ أطبّاء في سويسرا شكّلوا فريقاً للبحث في علاج الحسد؛ وهذا دليلٌ على أنّهم كانوا يتعاملون مع الحسد كما الأمراض العضويّة، كالسلّ والسرطان، التي تهدّد سلامة البشر، ويحاولون إيجاد علاج له.
إنّ أصل هذا التفكير يبعث على الأمل، فقد عرف البشر مرض الحسد منذ وقت بعيد، ولكنّهم لم يجدوا طريق علاجه، ولم يعرفوا بأيّ دواء يمكن القضاء على هذا المرض الذي لا يُبقي ولا يذر.
في اعتقادنا، إنّ الحسد أخطر من السرطان؛ لأنّ السرطان يُهلك في السنة المئات، بينما الحسد يستطيع أن يقضي في لحظة واحدة على الملايين. وإنّ أكثر الحوادث التاريخيّة التي صنعتها الحروب والصراعات كانت وليدة الحسد.
* الحسد صنع مجرمين
الإسكندر المقدونيّ على سبيل المثال، كان ينظر باستمرار إلى الدول التي كانت في عصره بمنظار الحسد، وكان الحسد أحد أسباب هجومه على إيران. يُقال إنّه عندما أحرق سرير “جمشيد”، وكانت ألسنة النار تتصاعد من أبواب القصر وجدرانه، كان الإسكندر في حالة سُكر؛ إذ امتزج ضحكه بالغضب. إنّ هذا الغضب الممزوج بالبسمات السكرى ليس إلّا شعلة من نار الحسد المستعرة في قلبه باستمرار.
وقد كُتب عن هتلر، الذي ارتكب في الحرب العالميّة الثانية تلك الفجائع والمجازر، أنّه كان رجلاً حسوداً جدّاً، حتّى أنّه لم يكن يستطيع تحمّل وجود لون جميل على ثياب الآخرين، وكان يقضي على ذلك اللباس، الذي انصبّ حسده عليه، بأيّ طريقة ممكنة! وقد قال في أحد تصريحاته: “أنا لا أستطيع أن أرى أنّي كبرت وشبت، وجاء الشباب ليحتلّوا موقعي”.
ويعتقد أحد الكتّاب المتخصّصين في التاريخ أنّ سبب ارتكاب هتلر لهذه المجازر هو الحسد، وأنّه كان يريد أن يطفئ نار حسده عن طريق الإفراط والتشدّد في الطرق التي اعتمدها (1).
* تبعات الغفلة
من أجل حفظ سلامة النفس، يجب اجتناب الأشياء التي تسبّب المرض النفسيّ، مثل مرض الغفلة والقسوة. وللحيلولة دون حدوث هذه الأمراض، يجب التداوي بالأدوية التي ذكّر بها القرآن المجيد.
مثلاً: الأشخاص الذين يستغرقون في الاهتمام بالبدن وتأمين وسائل الراحة له، يضطرون إثر ذلك للانشغال بالأمور الماديّة، بالتالي يغفلون، شاؤوا أم أبوا، عن ذكر الله والآخرة؛ أي حياتهم الأبديّة، اللهم إلّا ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ (النور: 37).
طبعاً، هؤلاء قلّة، وأكثر الناس يبتلون بمرض الغفلة والقسوة جرّاء هذه الانشغالات الدنيويّة، والاستغراق بالمادّة، التي تجذب الإنسان إلى الدنيا بوصفها أمّ الماديّات، بالتالي يتولّد لديه الحرص، والتعلّق بالدنيا والغيرة والحسد.
* علاج الغفلة
هؤلاء لا علاج لمرضهم إلّا الأدوية التي ذكّر بها القرآن، والتي أهمّها الصلوات الخمس. قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه: 14).
يجب أن يسعى الإنسان جاهداً حتّى لا يسمح للأشياء، التي يراها بعينه أو يسمعها بأذنه، أن تكون مضرّةً له. ومن يحدّد إذا كان هذا الشيء أو ذاك مضرّاً، هو العقل السليم والشرع المقدّس.
وبشكلٍ عام، فإنّ كلّ الأشياء التي جاء بيانها في شرع الإسلام، من التعاليم التي تنادي بالعمل أو بالاجتناب، تهدف إلى تقدّم النفس في الكمالات الإنسانيّة، أهمّها الصلاة، التي تربط الإنسان بالله، فيقلّ تعلّقه بالدنيا.
باختصار، إنّ الدين الإلهيّ جاء لإصلاح الأنفس وسلامة القلوب، وبذلك تتحقّق سعادة الإنسان الماديّة والروحيّة، ويصل إلى السعادة المطلقة في العالمَين.
* القرآن يهب الحياة
لقد أرسل الله سبحانه مع النبيّ العظيم صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً تهب تعاليمه الطبيّة والروحيّة الحياة للنفوس وتحيي القلوب.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: 24).
وقال أيضاً: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ (الأنعام: 122).
وقال سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: 97).
والخلاصة: إنّ القلوب التي تموت بسبب الكفر والنفاق، فإنّها بواسطة البراهين القاطعة والأدلّة الواضحة التي يتضمّنها القرآن الكريم، تحصل على الإيمان الذي هو الحياة الحقيقيّة. فالقرآن، إذاً، شفاء للأمراض الداخليّة: ﴿وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (يونس: 57).
كما قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء﴾ (فصلت: 44).
وقال سبحانه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء: 82).
القرآن شفاء لأنّه يعالج أمراض أتباعه النفسيّة، وهو رحمة لأنّه يهب قلوب أتباعه الصحّة والاستقامة لينصرفوا إلى كسب الأخلاق الفاضلة، وينعموا بمقوّمات الإنسانيّة في الحياة.
(*) مقتبس من كتاب “القلب السليم”، ص 41- 55.
(1) جريدة “پارس”، العدد 3363، بتاريخ: 8/10/1348 هجريّ شمسيّ.