تحدثنا في المقال السابق عن دعاء العهد، وعرفنا من خلال تعريف الإِمام الصادق عليه السلام أن هذا الدعاء ينسجم كمال الانسجام مع التوحيد الخالص لله تبارك وتعالى.
وفي هذا المقال سوف نتابع الحديث عن آثار هذا الدعاء. والملاحظ في تعريف الإِمام الصادق عليه السلام لهذا الدعاء أنَّ له نوعين من الآثار: دنيوية، وأخروية. ولذا سوف يتمّ التحدُّث عن ذلك ضمن نافذتين:
* النافذة الأُولى: الآثار الدنيوية لدعاء العهد
لا أقصد من خلال توصيف الآثار بالدنيوية أنْ أتكلّم عن آثار مادّية، من قبيل الغنى والجاه والملك وما شاكل ذلك. وإنّما المقصود منها الآثار التي تحصل في الدنيا، ويكون ظرف حصولها هذه النشأة المعروفة بالنشأة الدنيا، وإنْ كانت في حدِّ ذاتها تعدُّ من الآثار المعنوية.
وبحسب النصّ المتقدّم عن الإِمام الصادق عليه السلام يتضح لنا أنَّ الأثر الَّذِي يكون ظرف حصوله عالم الدنيا هو أنَّ: “مَنْ دَعَا إِلَى الله أَرْبَعِينَ صَبَاحاً بِهَذَا الْعَهْدِ كَانَ مِنْ أَنْصَارِ قَائِمِنَا عليه السلام”1.
وفي هذه النافذة أسئلةٌ لا بدّ من الإجابة عنها:
1ـ ما معنى النُّصرة المترتبة على قراءة هذا الدعاء؟
2ـ ما المراد من (قَائِمِنَا)؟
3ـ ما هي القيمة المعنوية لهذا الأثر؟
أ- معنى النُّصرة
وفي مقام الإجابة عن السؤال الأوّل ينبغي أنْ نلتفت إِلَى فارقٍ بين التعبير بالفعل (نَصَرَ)، والتعبير بالوصف الاسمي (أنصار).
فإنّ النُّصرة بالفعل تدلُّ على إيتاء الظفر على العدو ولو لمرّةٍ واحدة، فإنْ كانت من الله فهي بمعنى: أعطاه الظفر، وإنْ كانت من إنسان فهي بمعنى إعانته على تحقيق الظفر. وهذا بخلاف صيرورة الشخص من الأنصار، فإنّ ذلك لا يكفي فيه تحقُّق الفعل مرّةً واحدة، بل لا بدّ من تكرُّر النُّصرة من الناصر للمنصور لكي يصدُق في حقّ الناصر أنَّه من الأنصار.
ومن هنا يتضح أنَّ مقام كون الشخص من (الأنصار) أعلى مرتبةً من مقام مجرّد (النُّصرة)، وهذا فيه دلالة واضحة على عظم هذا الدعاء الموسوم بدعاء (العهد)، والذي يوصل المواظب على قراءته إِلى هذا المقام العظيم.
ب- معنى (قائمنا)
وأمّا الجواب عن السؤال الثاني، فكلمة (القائم) التي تكرّرت في أخبار أهل بيت النبيّ الأعظم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تعني بحسب مدلولها اللغوي ـ خصوصاً إذا جاءت بعدها كلمة (الأمر)، بأنْ يُقال: (القائم بالأمر) ـ الشخصَ الَّذِي يتولى شأنَ الأمر الموكل إليه، وبحسب المصطلح الروائي: الَّذِي يلي شأنْ الأُمّة بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا يتوجّه السؤال التالي: إذا كان الأمر كذلك، فأئمّة أهل البيت عليهم السلام كلّهم قائمون بالحقّ، فلِمَ اختصّ هذا الوصف بمولانا صاحب العصر والزمان؟
وهذا السؤال بعينه ورد في بعض الأخبار، ففي كتاب علل الشرائع للشيخ الصدوق رحمه الله بإسناده عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ثَابِتِ بْنِ دِينَارٍ الثُّمَالِيِّ، قَالَ: “سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عليهما السلام: يَا ابْنَ رَسُولِ الله فَلَسْتُمْ كُلُّكُمْ قَائِمِينَ بِالْحَقِّ. قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ سُمِّيَ الْقَائِمُ قَائِماً؟” فجاء الجواب: لَمَّا قُتِلَ جَدِّيَ الْحُسَيْنُ عليه السلام ضَجَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الله تَعَالَى بِالْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ. وَقَالُوا: إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا، أَتَغْفَلُ عَمَّنْ قَتَلَ صَفْوَتَكَ وَابْنَ صَفْوَتِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ؟ فَأَوْحَى الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ: قَرُّوا مَلَائِكَتِي، فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَأَنْتَقِمَنَّ مِنْهُمْ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. ثُمَّ كَشَفَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ عليهم السلام لِلْمَلَائِكَةِ فَسُرَّتِ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَحَدُهُمْ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: بِذَلِكَ الْقَائِم أَنْتَقِمُ مِنْهُمْ”2.
وقد ذكر القطب الراوندي علّةً أُخرى لتسميته صلوات الله عليه بـ (القائم)؛ حيث قال: “قِيلَ: وَلِمَ سُمِّيَ الْقَائِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَقُومُ بَعْدَ مَوْتِ ذِكْرِهِ وَارْتِدَادِ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ”3.
ج- القيمة المعنوية للأثر الدنيوي
هذا، ومن عظمة هذا التركيب (أَنْصَار قَائِمِنَا) يتضح لنا قيمة هذا الأثر الدنيوي الَّذِي يترتّب على المواظبة على هذا الدعاء؛ كيف وصيروة الإنسان من المواظبين على نُصرة من يقوم بأمر الله تبارك وتعالى، والمنتقم لسبط النبيّ المصطفى صلوات الله عليه، من أعلى المراتب التي يسعى إليها الخواصّ من أولياء الله تبارك وتعالى.
وكفى بهذا الأثر فضلاً أنْ يوسم صاحبه بكونه من المواظبين على نُصرة القائم بأمر الله تعالى، بما يختزل هذا القائم من خصال الأنبياء والمرسلين والأولياء والصدّيقين.
* النافذة الثانية: الأثر الأخروي لدعاء العهد
من كرم الله ومنّه أنَّه لا يريد أن يضيع أجر المواظبة على هذا الدعاء إنْ مات المواظب عليه قبل ظهور الحجة عليه السلام؛ فلذا ورد في مقدمته: “فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ أَخْرَجَهُ الله تَعَالَى مِنْ قَبْرِهِ، وَأَعْطَاهُ الله بِكُلِّ كَلِمَةٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ سَيِّئَةٍ”.
فإخراجه من قبره رجوعٌ إِلَى ذلك الأثر الدنيوي والمرتبة العالية المتقدمة، وهي أن يكون ذلك العبد المواظب على الدعاء “مِنْ أَنْصَارِ قَائِمِنَا عليه السلام”، وهذا يعني أنَّ الموت لا يمكن أنْ يحجب العبد عن الوصول إِلى هذه المرتبة العظيمة.
وكون كلّ كلمةٍ قالها العبد المواظب على هذا الدعاء تعادل ألف حسنة، وتكون سبباً لمحو ألف سيئة، من الآثار التي تضاف إِلَى سجلّ هذا العبد في الآخرة، فهنيئاً للمواظبين على قراءته.
1 بحار الأنوار، المجلسي، ج53، ص95.
2 علل الشرائع، الصّدوق، ج1، ص160.
3 كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص378.