الجواب على هذا السؤال يوضح مواضعَ الحساسيّة التي تستثير المستكبر في هذه العقيدة، وسببَ حساسيّته من هذه المواضع، وسببَ عدم قدرة المستكبر على تحمّل عقيدة التوحيد حين تطرح بهذه الكيفيّة. وجدير بالذكر أنّ الجواب على هذا السؤال يوضح لنا من جانب آخر أهميّة التوحيد باعتباره القاعدة الأساس التي تقوم عليها الرسالة.
نحن نعلم أنّ شعار التوحيد هو أوّل نداء يرفعه النبيّ في المجتمع: “قولوا لا إله إلّا الله تُفلحوا”[1].
وقد نقل القرآن الكريم عن أنبياء كرام مثل: نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم خطابهم لأممهم، وكان الخطاب يدور حول محور التوحيد: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾[2].
هذه الشعارات كما ترى تستند بالدرجة الأولى إلى رفض كلّ عبوديّة لغير الله. يدعو النبيّ بهذه الشعارات الجهلة الغافلين المنغمسين في أوحال النظام الجاهليّ الطاغوتيّ أن يكفّوا عن عبوديّة كلّ قطب وقدرة غير الله. وهذا يعني أنّ النبيّ يبدأ دعوته بإعلان الحرب على كلّ الذين يجعلون من أنفسهم آلهة من دون الله.
مَن هم أدعياء الألوهيّة في المجتمع؟ وما معنى إعلان الحرب على الآلهة المزيّفة؟ وما هو الوضع الذي تريد دعوة الأنبياء أنْ توجده في المجتمع؟
إنّ عبارة “أدعياء الألوهيّة” توحي إلى الأذهان عادة أولئك الذين جعلوا من أنفسهم “إلهًا”، أي أولئك الذين ادّعوا لأنفسهم تلك القدرة الخارقة التي كان البشر يؤمن بها على مرّ التاريخ بشكل من الأشكال؛ وهذا فهم سطحيّ للعبارة.
كان هناك طبعًا في التاريخ مجرمون تافهون استغلّوا قدرتهم السياسيّة والاجتماعيّة، فأوحوا إلى أفراد أتفه منهم أنّهم آلهة بالمعنى المتقدّم أو أنّهم يحملون جانبًا من روح الإله. ولكن لو ألقينا نظرة على المعنى الواسع لألفاظ “العبادة” و”الربوبيّة” و”الألوهيّة” في القرآن، لاستنتجنا أنّ إطار مفهوم “أدعياء الألوهيّة” أوسع من ذلك الفهم بكثير.
واستعمال مادّة “العبادة” في القرآن الكريم يفيد أنّ العبادة تعني التسليم والطاعة المطلقة تجاه إنسان أو أيّ موجود آخر. حين نستسلم استسلامًا أعمى لشخص، ونتحرّك وفقًا لرغباته وأهوائه وأوامره فقد عبدناه، وكلّ قوّة تستطيع أن تُخضعنا لها، وتسيطر على أجسامنا ونفوسنا، وتسخّر طاقاتنا وفقًا لرغباتها، فإنّها تصيّرنا عبيدًا لها سواء كانت هذه القوّة داخل أنفسنا، أم في محيطنا الخارجيّ. ومن أمثلة هذه الاستعمالات القرآنيّة:
حين يخاطب موسى فرعون في بداية دعوته معاتبًا يقول: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾[3]. فيردّ فرعون وبطانته فيقولون: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾[4].
وحين يخاطب إبراهيم أباه قائلًا: ﴿يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّ﴾[5].
وفي خطاب ربّ العالمين للبشريّة قوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[6].
ويعد الله تعالى عباده الصالحين: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى﴾[7].
وحول أولئك الذين يعيبون على المؤمنين إيمانهم يقول تعالى: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾[8].
هذه الآيات عبّرت عن الطاعة لفرعون ولبطانته وللطاغوت وللشيطان بكلمة “عبادة”. ومن خلال دراسة جميع آيات القرآن في هذا المجال، نخلص إلى أنّ العبادة في المفهوم القرآنيّ: هي الاتّباع والتسليم والطاعة المطلقة أمام قدرة واقعيّة أو وهميّة طوعًا ورغبة أو كُرهًا وإلزامًا، مع الشعور بالتقديس والثناء المعنويّ أو بدونه.. هذه القدرة هي “المعبود” وهذا المطيع هو “العبد” و”العابد”.
من خلال الإطار العامّ للمفاهيم المتقدّمة، يتّضح معنى لفظة “الألوهيّة” ولفظة “الله” باعتبارهما تعبيرًا آخر عن كلمة “المعبود”.
في النظام الجاهليّ المنحرف المنقسم إلى طبقتين: مستكبرة ومستضعفة، أي المنقسم إلى طبقة مسيطرة ماسكة بزمام جميع الأمور ومترفة طبعًا، وطبقة مهملة مسخّرة ومحرومة لزامًا، تبرز مظاهر الألوهيّة والعبوديّة كعلاقة غير متعادلة بين الطبقتين. ومن العبث أن نبحث وراء موجود مقدّس بشريّ أو حيوانيّ أو جامد، في دراسة آلهة المجتمعات الجاهليّة على مرّ التاريخ. فأبرز مظهر للمعبود والإله في هذه المجتمعات، هو تلك الفئة التي تمارس، اعتمادًا على ارتباطها بالطبقة المستكبرة، عمليةَ إخضاع وإرضاخ الجماهير المستضعفة ودفعها إلى طريق إشباع نهمها وجشعها. فالدين الواقعيّ في هذه المجتمعات هو “الشرك”، لأنّ الآلهة فيها متعدّدة بتعدّد مراكز القوّة المسيطرة التي تستثمر الناس على طريق أهوائها.
والشرك هو تأليه أفراد إلى جانب الله أو بدلًا منه تعالى. وبتعبير آخر هو: إيكال أمور الحياة إلى غير الله، أو بعبارة أخرى، الاستسلام أمام كلّ قدرة غير الله، والاتّجاه نحو هذه القدرة لدى الحاجة، والسير على طريقها.
بينما التوحيد يقع في النقطة المقابلة للشرك تمامًا؛ يرفض كلّ هذه الآلهة، ويرفض التسليم لها، ويقاوم سيطرتها، ويحصّن القلوب من الركون إليها، ويدفع إلى إزالتها وطردها، ويشدّ الكائن الإنسانيّ بكلّ وجوده إلى الله.
إذ إنّ أوّل شعار رفعه رُسُل الله هو ذلك الرفض وهذا التسليم: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[9]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾[10]. والأنبياء، إذن، أعلنوا زوال النظام الجاهليّ الفاسد المنحطّ بهذا الشعار. حيث دعوا إلى كفاح مريرٍ للطواغيت، أي لحماة هذا النظام وللمستهينين بالقيم الإنسانيّة الأصيلة ولأصحاب تلك القيم التافهة المساندة للظلم والظالمين.
إنّ رفض الشرك هو في الواقع رفض لكلّ الكيانات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة المقوّمة للمجتمع الجاهليّ، والمتّخذة من مذهب الشرك غطاءً وتبريرًا لوضع المجتمع المهزوز. ورفض الآلهة المزيّفة، يعني طرد كلّ الذين دأبوا على استضعاف الجماهير، واستغلالها عن طريق القوّة والتزوير، من أجل إشباع غرائزهم وأهوائهم الجامحة.
لقد اتّجه موسى إلى حرب فرعون بهذا الشعار. وقد تردّد على ألسن بطانة فرعون مسألة رفض موسى لآلهتهم التقليديّة: ﴿وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾[11]. غير أنّ فرعون ومَن تبعه كانوا يعلمون جيّدًا أنّ تلك “الآلهة”، أي الأصنام الجامدة، ليست إلّا غطاءً وتبريرًا لألوهيّة فرعون وأتباعه. لقد كان الصنم الجامد في الحقيقة تبريرًا لتأليه الأصنام الحيّة، لذا كان من المنطقيّ تمامًا أن يقف فرعون من دعوة موسى، أي من الدعوة إلى الله الواحد الأحد بارئ السماوات والأرض، موقف المهدّد بالسجن وبقتل مَنْ آمن به وتعذيبهم: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾[12]، ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾[13]، ﴿لاَقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾[14].
كلّ هذا التعنّت والتصلّب أمام اسم “الله” ودعوة التوحيد، يعود إلى أنّ هذا النداء لا يعني إلّا: الإيمان بحاكميّة الله وحدها على الحياة، ورفض الآلهة المزيّفة. كذا الارتباط به وحده وتمزيق كلّ قيود العبوديّة الأخرى. وهذه هي روح التوحيد وأبعاده البنّاءة النابضة بالحياة.
روح التوحيد رفض عبوديّة غير الله، الإمام السيد علي الخامنئي (حفظه المولى)
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار (بيروت: مؤسّسة الوفاء، الطبعة2 المصحّحة، 1403ه، 1983م)، الجزء 18، الصفحة 203.
[2] سورة الأعراف، الآية 59.
[3] سورة الشعراء، الآية 22.
[4] سورة المؤمنون، الآية 47.
[5] سورة مريم، الآية 44.
[6] سورة يس، الآية 60.
[7] سورة الزمر، الآية 17.
[8] سورة المائدة، الآية 60.
[9] سورة النحل، الآية 36.
[10] سورة الأنبياء، الآية 25.
[11] سورة الأعراف، الآية 127.
[12] سورة الأعراف، الآية 29.
[13] سورة الأعراف، الآية 127.
[14] سورة الأعراف، الآية 124.