Search
Close this search box.

لا يسخرْ قومٌ من قــوم(1)

لا يسخرْ قومٌ من قــوم(1)

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾ (الحجرات: 11).

إنّ من الأساليب والأفعال الخاطئة والمذمومة التي تثير شوائب الاستهانة واحتقار الآخرين هو: “الاستهزاء” بهم و”السخرية” منهم، فهذان الفعلان هما من جملة أمراض اللّسان المفسدة والمذمومة جدّاً، والتي تنتج عنها عواقب وخيمة؛ كالإيذاء، والعداوة، والبحث عن الانتقام في المجتمع البشريّ. وهي تفصم أواصر الوحدة وروح الاتّحاد والانسجام.

* تعريف الاستهزاء والسخرية
يطلق مصطلح الاستهزاء على كلّ تقليد في القول أو الفعل، أو أيّ صفة أخرى من الصفات، أو بيان نقص من النقائص الأخرى لإضحاك الناس.

وقد يعرِّض الشخص بشخص آخر، لدى التعريف به، بلحن القول أو بنوع الفعل فقط، ويبيّن حالته أو صفته، كأن يعرّف الشخص المعيّن بصفة العمى أو العرج. وهذا طبعاً خارج عن تعريف الاستهزاء، ولكنه قد يبيّن هذه الصفات لإضحاك الآخرين، وهذا يعدُّ من الأفعال والأساليب المذمومة والمرفوضة، ويسمَّى “السخرية والاستهزاء”.

وتتشكّل حقيقة الاستهزاء من جزأين هما:
1- تقليد الآخرين.
2- قصد إضحاك الآخرين.

* أقسام الاستهزاء والسخرية
يحصل الاستهزاء بالآخر على نحوين:
أ- الصَّريح (بالقول أو الفعل): يتحقّق هذا الفعل من خلال: تقليد حركة المشي، تناول الأكل، الجلوس…، أو أيّ لحن وصوت ينطق بهما الإنسان لإضحاك الآخرين.
ب- غير الصريح (بالإشارة أو الكناية): كما لو كان بالإيماء والإشارة على نحو اللحن أو بيان فعل الشخص، ويكون كذلك سبباً في إضحاك الآخرين والسخرية.

ويقسم الاستهزاء، من حيث السريّة والخفاء أو عدم وجود العيب الذي يمكن تقليده إلى قسمين:
أ- تقليد العيب الخفيّ: قد يكون الأمر الداعي إلى الضحك هو وجود عيب أو نقص في الشخص يجهله الآخرون، ولا يعلم به إلّا من سخروا منه واستهزأوا به.
ب- تقليد العيب الظّاهر: ويكون العيب الذي يُستهزأ به ويُسخر منه معروفاً لدى الجميع.

ويُقسم الاستهزاء، من حيث حضور الشخص الذي يُسخر منه أو غيابه، إلى قسمين أيضاً:
– الاستهزاء بالشخص وهو حاضر.
– الاستهزاء بالشخص وهو غائب.

والأمر الآخر المهم هنا هو: أن يُسخر من إنسان ذي عاهةٍ أو نقص في بدنه، كالسخرية بالأعرج، ومن له لكنة في لسانه، مثلاً. وقد يُسخر أحياناً منه بسبب أفعاله الحسنة، وما يقوم به من خير، كما يسخر الكفّار والمنافقون من أهل الإيمان بسبب إيمانهم، أو سخرية عديمي المبالاة من المحسنين.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ (المطففين: 29-30).

* ذمُّ الاستهزاء والسخرية شرعاً وعقلاً
ذمَّ العقل والشّرع التعدّي على حقوق الآخرين، والتجاوز على كراماتهم، والاستهانة بهم بجميع الأشكال؛ فالعقل البشريّ يرى أنّ الظلم والتعدّي على حقوق الآخرين هما عمل قبيح وفعل منكر، ويستحقّ الظالم والمخالفون كذلك الذمّ واللّوم عليه.
ومن الواضح هنا، أنّ الاستهزاء والسخرية هما من المصاديق الواضحة للظلم والاعتداء.

وبناءً على هذا، فقد عُدّ قبح الاستهزاء والسخرية، من منظور عقليّ، أمراً مفروغاً منه ومعروفاً.
أمّا الشرع فهو يحكُم بما حكَم به العقل، بسبب وجود التلازم بين حكم العقل وحكم الشرع(1). وقد عُدّ الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين حراماً، ويستحقّ الظالم العقاب على ذلك.

* في القرآن الكريم والروايات
نهى القرآن الكريم والروايات والنصوص بصراحة عن هذا الفعل، وعُدَّ، من منظورها، عملاً محظوراً.
قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾ (الحجرات: 11).
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ (الكهف: 49).

وروي عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية، أنّه قال: “الصغيرة: التبسّم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة: القهقهة بذلك”(2).

فلو سخر شخص ما من شخص آخر واستهزأ به، في حال حضوره ووجوده، فقد وفّر لذلك عناصر عدم رضاه وسخطه، وكان سبباً في إيذائه. وفي هذه الحالة سيعمّ المستهزئ حكم المستهزئين بالمؤمنين أيضاً، فمن آذى مؤمناً فقد آذى الله، ومن آذى الله فهو ملعون، كما روي ذلك عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “من آذى مؤمناً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله…”(3).
إنّ من آذى مؤمناً فليأذن بحرب من الله، كما روي ذلك عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: “قال الله عزّ وجلّ: ليأذن بحرب منّي من آذى عبديَ المؤمن”(4).

* استهزاء يؤدّي إلى الغيبة
إذا وقع الاستهزاء في غياب شخص، وتناول عيوبه الخفيّة، فمضافاً إلى حكم الاستهزاء، يشمله حكم الغيبة أيضاً، وهذا الفعل نفسه من ذنوب اللسان الكبيرة.
ولو سخر شخصٌ ما بالعمل الصالح أو بالإيمان والاعتقاد السليمين، فقد عدّ سبباً في إدخال الوهن في دين الله؛ أي استهانته بالإيمان والعمل الصالح، وهذا ذنب عظيم.

قال الله تعالى في القرآن الكريم، في وصفه لحال أهل النار، وردّ طلبهم في العودة إلى الحياة الدنيا:
﴿اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ (المؤمنون: 108-110).

في الخاتمة، هذا بعض الكلام في أقسام هذا المرض الأخلاقيّ، وحكمه الشرعيّ؛ أمّا في جذوره الباطنية، ونتائجه، وأساليب معالجته، فسيتكفّل ببيانها العدد القادم إن شاء الله المولى.

1.كما هو المعروف والمشهور أن: “كل ما حكم به العقل حكم به الشرع”.
2.مجموعة ورّام، ورّام بن أبي فارس، ج1، ص113.
3.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج12، ص283.
4.الكافي، الكليني، ج2، ص350.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل