تميّزت سامرّاء بكونها مدينة واسعة امتدّ العمران فيها ثمانية فراسخ (نحو ثلاثين كيلومتراً)، وتخلّل ذلك فراغات واسعة وميادين متعدّدة. وقام ازدهارها على إقامة ثمانية خلفاء فيها لثمان وخمسين سنة (221ه- 279ه). ويرجع بعض أسباب المكانة العظيمة التي احتفظت بها إلى أنّها تحتضن مرقديّ الإمام عليّ الهادي والإمام الحسن العسكريّ عليهما السلام.
* نظرة تاريخيّة إلى مدينة سامرّاء
شيّد المسلمون، منذ بداية تكوين دولتهم، مدناً وأمصاراً، لأغراض عدّة كان لها أثر في تنظيمها، منها: السكن، والترويح عن النفس، وليسكنها المقاتلون المسلمون؛ لتكون مراكز قوّاتهم العسكريّة العاملة في حفظ الأمن والإدارة، وصدّ غزوات الأعداء، والقيام بالحملات العسكريّة، وتوسيع الدولة(1)، كمدينة الكوفة، وبغداد، وسامراء.
وبعدما بويع المعتصم(2) للخلافة في سنة 218هـ، أقام في بغداد سنتين، ثمّ خرج منها سنة 220هـ، فنزل في موضع يُقال له القاطول(3)، وأمر ببناء مدينة سامراء (221ه/ 736م) ضمن صحراء الطيرهان(4)، لتجنّب الأخطار الناجمة عن الاحتكاك بأهل بغداد، وما قد يؤدّي ذلك إلى تهديد خلافته؛ فكان غرضه دفاعيّاً بالدرجة الأولى. وذكرت بعض المصادر أنّه قام بنقل مقرّ إقامته من بغداد، بسبب اصطدامات متفرّقة حدثت بين جنده الأتراك وأهل بغداد الذين تأذّوا منهم(5). وبعد الفراغ من بنائها انتقل إليها فنزلها(6)، وصارت حاضرة الخلافة العباسيّة، ومقرّ دواوين الدولة(7)، وعُرفت بُعيَد بنائها بـ (سرّ من رأى)، وقد سُمّيت بمدينة العسكر(8)؛ لكونها أصبحت مركز القوّات العسكريّة.
وفي عهد المتوكّل العباسيّ سنة 245هـ/ 859 م بنى مدينة المتوكّليّة، وقصر البركة، وشيّد الجامع الكبير، ومنارة مئذنته الشهيرة بـ”الملويّة”، التي تعدّ أحد المعالم الأثريّة والحضاريّة فيها(9). وخلال فترة خلافة المعتمد (256هـ/ 870م)، شيّد قصر العاشق(10). تعرّضت المدينة للتدمير أثناء الغزو المغوليّ للعالم الإسلاميّ في عام 656هـ/ 1258م، وكذلك الغزو الصفويّ، فهدّمت أسوارها ومبانيها. وبعد سيطرة العثمانيّين على العالم الإسلاميّ، شهدت المدينة نهضة عمرانيّة وحضاريّة. وفي سنة 1294هـ/ 1878م، بُنيت فيها أوّل مدرسة ابتدائيّة.
* موقع مدينة سامرّاء
تقع مدينة سامرّاء ضمن محافظة صلاح الدين حاليّاً، ولها قضاء خاصّ بها، وتبلغ مساحتها الحاليّة 4504 (كم2)، وبلغ تعداد سكّانها في عام 2013م نحو 190 ألف نسمة، وتبعد عن العاصمة بغداد 125 كم2 تقريباً.
أدرجت منظّمة اليونسكو في اجتماعها الدوريّ الـ(31) المنعقد في نيوزلندا مدينة سامرّاء في لائحة التراث العالميّ، التي تضمّ 851 موقعاً، بينها 600 موقع ثقافيّ، و166 موقعاً طبيعيّاً، و25 موقعاً مختلطاً(11).
* المراقد الشريفة في سامرّاء
1. مرقد الإمامَين العسكريّين عليهما السلام: حيث يتضّمن ضريح الإمام عليّ الهادي عليه السلام، وابنه الإمام العسكريّ عليه السلام، ويُطلق عليه في العصر الحديث بـ”العتبة العسكريّة المقدّسة”.
2. مرقد السيّدة حكيمة: هي حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، وهي أخت الإمام عليّ الهاديّ عليه السلام، وعمّة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، وكانت تعيش معهم في سرّ من رأى، وكانت عالمة(12)، نجيبة، كريمة، فاضلة، تقيّة، رضيّة(13)، وقد رأت القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف ليلة مولده وبعد ذلك(14)، وتوفّيت في مدينة سامرّاء في فترة الغيبة الصغرى، ويُقال إنّها دُفنت في جوار مرقد الإمامَين العسكريّين عليهما السلام(15).
3. مرقد السيّدة نرجس: هي والدة الإمام الحجّة محمّد بن الحسن المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وكانت عالمة بمصيرها وبزواجها من الإمام العسكريّ عليه السلام، وهي امرأة نجيبة كريمة(16)، وقبرها خلف قبر الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام(17).
* عمارة العتبة العسكريّة المقدّسة (18)
– العمارة الأولى: سنة 289ه/ 902م، كانت العمارة الأولى؛ فبعد موت المعتضد العباسيّ، نُصب شباك في جدار الدار يشرف منه المارّة في الشارع على تلك القبور داخلها.
– العمارة الثانية: سنة 332ه/ 944–945م، كانت العمارة الثانية، عندما قام ناصر الدولة الحمدانيّ الحسن بن أبي الهيجاء بتشييد الدار من جديد، ورفع قبرَي الإمامَين عليهما السلام وكلّلهما بالستور، وبنى عليهما قبّة صغيرة، وأحاط سرّ من رأى بسور.
– العمارة الثالثة: سنة 337ه /948–949م، كانت العمارة الثالثة، حيث شيّد معزّ الدولة البويهيّ أبو الحسن أحمد بن بويه عند دخوله سامرّاء أوّل عمارة على شكل مزار بعد أن أكمل عمارة الحمدانيّ، وغيّر في طرز البناء، فأسّس الدعائم، وعمّر القبّة التي تعلو الضريحَين وسرداب الدار، وأقام على القبرَين صندوقاً خشبيّاً، وجدّد بناء صحن الدار وسوره.
وسنة 368ه/ 978–979م، قام عضد الدولة البويهي بزيارة سامرّاء، وأمر بوضع سياج من خشب الساج حول المرقدَين، ووسّع الصحن، وعمّر أروقته، وستر الضريحَين بالديباج، كما شيّد سوراً للمرقد.
– العمارة الرابعة: سنة 445ه/ 1053م، حصلت العمارة الرابعة على يد الأمير التركيّ أبو الحارث أرسلان بن عبد الله البساسيريّ (451ه/ 1060م)، حيث أمر بعمارة المرقد الشريف عمارة عالية تليق بالإمامَين العسكريّين عليهما السلام؛ فعمّر القبّة والضريحَين من جديد، وجهّز صندوقَين من الساج ووضعهما على القبرَين، وجعل رماناتهما من الذهب، فكانت هذه أوّل قطع ذهبيّة تُهدى إلى مرقد الإمامَين عليهما السلام.
– العمارة الخامسة: سنة 495ه/ 1102م، حصلت العمارة الخامسة، حيث أمر الملك بركيا روق ابن ملك شاه السلجوقيّ (498ه/ 1104م)، بإعادة بناء سور المرقد الشريف، وتجديد جميع أبواب الروضة العسكريّة من أغلى أنواع الخشب وأجوده، وترميم القبّة والرواق والصحن.
– العمارة السادسة: سنة 606ه/ 1209–1210م، كانت العمارة السادسة، فقام أبو العبّاس الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله الحسن بن المستنجد العباسيّ بتعمير القبّة فوق الضريحَين، وتزيين الروضة الشريفة من الداخل، وبناء مئذنتين، وتجديد بناء سرداب دار الإمام عليه السلام، وكتابة أسماء المعصومين عليهم السلام على باب خشبيّ لا يزال موجوداً إلى يومنا هذا.
– العمارة السابعة: كانت العمارة السابعة سنة 640ه/ 1243م بعد نشوب حريق داخل الروضة، حيث أمر المستنصر بالله العباسيّ منصور بن محمّد باستبدال الصندوقَين المحترقَين بصندوقَين من خشب الساج، وإعادة ترميم المرقد.
– العمارة الثامنة: سنة 750ه/ 1349م، كانت العمارة الثامنة، حيث قام الأمير أبو أويس الشيخ حسن بزرك الجلائريّ بتزيين الضريح الساجيّ، وشيّد القبّة والدار من جديد، وأقام بهواً أمام المرقدَين.
– العمارة التاسعة: كانت العمارة التاسعة سنة 1106ه/ 1694م–1695م، بعد وقوع حريق داخل الروضة، فأمر الشاه حسين بن سليمان الصفويّ بصنع صناديق في غاية التزيين والترصيع للقبور، وجهّز شباكاً فولاذيّاً ليوضع فوق الصناديق، ودعّم البناء، وزيّن الروضة من الداخل بخشب الساج، وفرش أرض المرقد بالرخام.
– العمارة العاشرة: كانت العمارة العاشرة سنة 1200ه/ 1786م، عندما تصدّى الملك المؤيّد الشهيد أحمد خان الدنبليّ لعمارة المشهد بالحجر الصوّان والرخام، وأدخل الكثير من التحسينات، وروعي في ترتيب البناء أن يحاكي مرقد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وأضاف صحناً آخر، ورواقاً، واستُكملت أعمال الترميم والصيانة بعد مقتل أحمد خان على يد ابنه حسين قلي، فأكمل البهو والأبواب، وزيّن جامع السرداب بالنقوش، وكتب الآيات القرآنيّة على أركانه، كما زيّن القبّة بالقاشاني الأزرق المعرّق.
– العمارة الحادية عشر: سنة 1285ه/ 1868م، حصلت العمارة الحادية عشر خلال حكم ناصر الدين شاه القاجاري؛ فقد أمر بتعمير الروضة المطهّرة وتجديد بنائها، ففُرشت أرضها بالرخام الأخضر، وجُدّد الشباك الفولاذيّ بآخر فضيّ مذهّب التاج، ورُخّمت أرضه، كما أعاد فرش أرض الرواق والبهو والصحن بالمرمر، وأبدل الأبواب، ورمّم السور الذي بناه الدنبليّ، وأصلح بعض جوانب الصحن المتصدّعة والمنهارة. ولأوّل مرّة، كُسيت القبّة المنوّرة وأطراف المنائر بالذهب، ونُصبت ساعة على السور فوق الباب الرئيس للصحن، وهي الساعة الموجودة حاليّاً.
– العمارة الثانية عشرة: سنة 1438هـ/2017م، حيث انتهت أعمال ترميم القبّة المشرّفة وأجزاء من المشهد الشريف، إثر تعرّضه في عامي 1426هـ/2006م و1427هـ/2007م، لتفجيرين إرهابيين على يد المجموعات الإرهابية المدعومة من أمريكا وبعض الدول الغربية والعربية.
(1) العليّ، سامرّاء: دراسة في النشأة والبنية السكّانيّة، ص 57.
(2) المعتصم: أبو إسحاق محمّد بن هارون الرشيد، الخليفة الثامن، (179ه – 227ه) بويع سنة 218ه بعد وفاة أخيه المأمون، وهو باني مدينة سامرّاء سنة 221ه، وفاتح عموريّة سنة 223ه، وهو أوّل من لُقّب باسم مضاف إلى اسم اللَّه تعالى (الأعلام 7 / 351).
(3) راجع: ابن مسكويه، تجارب الأمم، ج 4، ص 184. القاطول: نهر كان في موضع سامرّاء قبل أن يعمر (مراصد الاطلاع).
(4) المسعوديّ، التنبيه والإشراف، ص 309.
(5) ابن مسكويه، تجارب الأمم، ج 4، ص 184.
(6) ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج 8، ص 437.
(7) السيّد الأمين، مستدركات أعيان الشيعة، ج3، ص 146.
(8) الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 360.
(9) العليّ، مصدر سابق، ص98، 127..
(10) المصدر نفسه، ص57.
(11) يراجع: وكالة أنباء براثا: www. http://burathanews.com/arabic/news
(12) الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص 424.
(13) العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، ج 99، ص 79.
(14) الشيخ المفيد، مصدر سابق، ج 2، ص 351.
(15) العلاّمة المجلسي، مصدر سابق، ج 99، ص 79.
(16) الشيخ الصدوق، مصدر سابق، ص 417.
(17) الشيخ النجفيّ، موسوعة أحاديث أهل البيت عليهم السلام، ج 5، ص 22.
(18) يراجع: موقع العتبة العسكريّة المقدّسة www.askarian.iq