Search
Close this search box.

وارحم شدة ضري

وارحم شدة ضري

قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: 40).
الدعاء إقبال العبد على الله. ولا يوجد في العبادات عبادة تقرّب الإنسان إلى الله أكثر من الدعاء. روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام يقول: “عليكم بالدعاء، فإنّكم لا تتقرّبون بمثله”(1).

“وإنّ لحظات الدعاء، ومناجاة الله، والتضرّع إلى خالق هذا الكون والجمال، والمُطمئِن الوحيد للقلوب والأرواح، وقاضي الحاجات، هي أفضل وأنجع وأجمل وأنفع لحظات حياة الإنسان. وعلى الرغم من أنّ للدعاء والمناجاة فوائد عظيمة وباقية، إلّا أنّ التقرّب إلى ذات الحقّ تعالى وطلب رضاه، وتبييض صفحة الأعمال الملوّثة بالذنب والغفلة، أو لوث الحياة المادّية، تبقى أفضل ما يحصل عليه المرء بالدعاء. والدعاء يقرّب الإنسان من الله عزّ وجلّ، ويجعل المعرفة في قلبه ثابتة مؤثّرة؛ فهو يقوّي الإيمان…” الإمام الخامنئي دام ظله (2).

* أدعية أهل البيت عليهم السلام أكمل الأدعية
إنّ الأدعية الأفضل والأكمل، من حيث المضمون وأسلوب خطاب المولى عزّ وجلّ، هي التي ورَدتنا عن طريق أهل البيت عليهم السلام. يقول الإمام الخامنئي دام ظله: “إنّ هذه الأدعية التي ترون، هي أدعية أمير المؤمنين عليه السلام المعتادة. إنها دعاء وتضرّع وإنابة أمير المؤمنين عليه السلام منذ أيّام شبابه… أحدها دعاء كميل(3) الذي تقرأونه ليالي الجمعة. سألتُ إمامنا العظيم الراحل قدس سره: أيّ الأدعية تفضّلون وتعظّمون أكثر من بين هذه الأدعية الموجودة؟ فتأمّل وقال: أحدها دعاء كميل، والآخر المناجاة الشعبانيّة… في هذين الدعاءين (دعاء كميل والمناجاة الشعبانية) مضامين غير عاديّة. هذان الدعاءان ليسا للقراءة فقط؛ يعني ليس الهدف أن يجري هذه الكلمات على لسانه؛ هذا أمر سطحي وصغير جدّاً، بل يجب أن يتعرّف القلب إلى هذه المفاهيم؛ يجب أن يدخل القلب إلى هذا الحرم. إنّ الغاية المنشودة من هذه المعاني الرفيعة والمضامين المميّزة المصوغة بهذه الألفاظ الجميلة، هي أن تأخذ مكانها في قلب الإنسان”(4).

* دعاءٌ عجيب
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: “دعاء كميل دعاءٌ عجيبٌ؛ فالدعاء يبدأ بالاستغفار، والقَسَم على الله بعشرة أشياء: “اللّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ بِرحَمتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيء…”(5)، يقسم على الله برحمته، بقدرته، بجبروته -بعشر من صفات الله الكبرى- ثم بعد أن يقسم على الله بهذه الصفات العشر، يقول: “اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَحْبِسُ الدُّعاءَ”(6). يذكر أمير المؤمنين عليه السلام خمسة أنواع من الذنوب أمام الله: الذنوب التي تحبس الدعاء، الذنوب التي تُنزل البلاء و… فالدعاء من أوّله استغفار؛ ويدوم هذا الاستغفار إلى آخر الدعاء. إنّ المضمون الأساس في دعاء كميل هو طلب المغفرة والعفو. إنّها مناجاة محرقة في طلب العفو من الله. هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام وهذا هو الاستغفار”(7).

* صور علاقة العبد بربّه في الدعاء
بناءً عليه، يمكن أن نفهم العلاقة بالله تعالى في ضوء دعاء كميل من خلال الصور الآتية:

1- إقبال القلب على الله:
وهو من أهمّ شروط الاستجابة، فإنّ حقيقة الدعاء في إقبال القلب على الله. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: (8). فـ(اللهو) و(السهو) و(القسوة) من الحجب والعوائق التي تعيق القلب وتمنعه من الإقبال على الله.”إنّ الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاءً بظهر قلب ساه”
وهذا ما نلاحظه في مطلع دعاء كميل حيث يفتتح عليه السلام دعاءه بذكر رحمة الله التي وسعت كل شيء، ليرتقي بقلبه إلى عزّته وعظمته التي ملأت كلّ شيء، ويعلن تصاغره أمام سلطان ربّه سبحانه وتعالى. قال عليه السلام: “اَللّهُمَّ اِنّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء، وَبِقُوَّتِكَ الَّتي قَهَرْتَ بِها كُلَّ شَيْء، وَبِسُلْطانِكَ الَّذي عَلا كُلَّ شَيء”.

2- الخضوع وترقيق القلب:
إذا أراد الإنسان أن يصيب دعاؤه الاستجابة فلا بدّ من أن يطلب رقّة القلب، ويسعى إلى ذلك.
فعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: “إذا رقّ أحدكم فليدعُ؛ فإنّ القلب لا يرقّ حتى يخلص”(9).
ونلحظ مثل هذه الصورة في المقاطع الأخيرة في دعاء كميل حيث يتعطّف عليه السلام ربّه، طالباً حاجته من جود الله وكرمه ورحمته، وهو ما يولّد حالة الذكر الدائم والمستمر عند العبد الداعي.
يقول عليه السلام: “وَجُدْ لي بِجُودِكَ… وَمُنَّ عَلَيَّ بِحُسْنِ إجابَتِكَ… فَإنَّكَ قَضَيْتَ عَلى عِبادِكَ بِعِبادَتِكَ، وَأمَرْتَهُمْ بِدُعائِكَ، وَضَمِنْتَ لَهُمُ الإجابَةَ”.
ولهذا ينصب عليه السلام وجهه، ويرفع يديه إلى الله، متيقّناً الاستجابة ودوام الرجاء، فيقول عليه السلام: “فَإلَيْكَ يا رَبِّ نَصَبْتُ وَجْهي وَإلَيْكَ يا رَبِّ مَدَدْتُ يَدي، فَبِعِزَّتِكَ اسْتَجِبْ لي دُعائي وَبَلِّغْني مُنايَ…”.

3- الإقرار بالذنوب:
ورد في دعاء كميل: “اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ، اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ… اَللّهُمَّ اغْفِرْ لي كُلَّ ذَنْب اَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ خَطيئَة أَخْطَأتُها”.

تؤثر الذنوب في حياة الإنسان في أمرين رئيسين:
الأول: تحجب الإنسان عن الله، فلا يتمكّن الإنسان من الإقبال على الله والتوجه إليه.
الثاني: تحجب الدعاء عن الصعود إلى الله؛ لأنّ الدعاء إذا صعد إلى الله تتمّ الإجابة من عند الله، فلا شحّ في ساحة الله، وإنّما المشكلة في الدعاء عند عدم وصوله إلى الله.
والملاحظ أنّ الإمام عليّاً عليه السلام يذكر خمسة أنواع من الذنوب مع آثارها المترتّبة عليها في الدنيا، لعلّ أبرزها أنّ الذنوب تمنع الإنسان من الدعاء، وقد تحبس الدعاء عن الصعود إلى الله.

لهذا على الداعي أن يعترف بذنوبه مقراً مذعناً تائباً عمّا اقترفه من خطايا وعمّا ارتكبه من ذنوب. عن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّما هي المدحة، ثم الثناء، ثم الإقرار بالذنب، ثم المسألة، إنّه واللّه لا خرج عبد من ذنب إلّا بالإقرار”(10).
ولهذ نجد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يلحّ في الدعاء المروي عن كميل بن زياد بقوله: “وَقَدْ أتَيْتُكَ يا إلهي بَعْدَ تَقْصيري وَإِسْرافي عَلى نَفْسي، مُعْتَذِراً نادِماً مُنْكَسِراً مُسْتَقيلاً مُسْتَغْفِراً مُنيباً مُقِرّاً مُذْعِناً… (إلهي) فَاقْبَلْ عُذْري وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرّي…”.

4- بناء العلاقة الصحيحة مع الله تعالى:
من أهمّ فوائد الدعاء معرفة الله، والإيمان بسلطانه المطلق وقدرته المطلقة على تحقيق ما يطلبه عبده منه.
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لو عرفتم الله حق معرفته، لزالت لدعائكم الجبال”(11). ومن المعرفة أن يعرف الداعي أنّ الله قريب منه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، ويحول بينه وبين نفسه. يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 186).
وهذا ما نلحظه بوضوح في فقرات دعاء كميل، وهذه نماذج منها، يقول عليه السلام:
– “وَأَسْأَلُكَ بِجُودِكَ أَنْ تُدْنِيَني مِنْ قُرْبِكَ، وَأَنْ تُوزِعَني شُكْرَكَ،
– اَللّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ سُؤالَ خاضِع مُتَذَلِّل خاشِع أَنْ تُسامِحَني وَتَرْحَمَني وَتَجْعَلَني بِقِسْمِكَ راضِياً قانِعاً وَفي جَميعِ الأَحْوالِ مُتَواضِعاً،
– يا سَيِّدي فَأَسْأَلُكَ بِعِزَّتِكَ أَنْ لا يَحْجُبَ عَنْكَ دُعائي سُوءُ عَمَلي وَفِعالي، وَلا تَفْضَحْني بِخَفِي مَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنْ سِرّي”.

5- التربية على حسن الظن بالله:
حسن الظن بالله من شُعب معرفة الله تعالى أيضاً. والله تعالى يعطي عباده بقدر حسن ظنّهم به ويقينهم بسَعَة رحمته وكرمه؛ ففي الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي، فلا يظنّ بي إلّا خيراً”(12).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة”(13).
وعلى الداعي أن لا يقنط من رحمة اللّه، ولا يستبطئ الإجابة، فيترك الدعاء؛ فيكون بذلك أشبه بالزارع الذي بذَر بذراً فجعل يتعاهده ويرعاه، فلمّا استبطأ كماله وإدراكه تركه وأَهمله. وعليه، يجب على الداعي أن يفوّض أمره إلى الله، وأن يحمل تأخّر الإجابة على المصلحة والخيرة التي حباها إيّاه مولاه، وأن يبسط يد الرجاء معاوداً الدعاء لما فيه من الأجر الكريم والثواب الجزيل. فحسن الظنّ المطلق بالله تعالى، من الصور الرائعة والجميلة في دعاء كميل. يقول عليه السلام:
“فَهَبْني يا إلهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدي وَمَوْلايَ أُقْسِمُ صادِقاً لَئِنْ تَرَكْتَني ناطِقاً لأضِجَّنَّ إلَيْكَ بَيْنَ أهْلِها ضَجيجَ الآمِلينَ (الآلِمينَ) وَلأصْرُخَنَّ إلَيْكَ صُراخَ الْمَسْتَصْرِخينَ، وَلأبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بُكاءَ الْفاقِدينَ، وَلأُنادِيَنَّكَ أيْنَ كُنْتَ يا وَلِيَّ الْمُؤْمِنينَ”.
ويكمل في مورد آخر قائلاً:
“… هَيْهاتَ ما ذلِكَ الظَّنُ بِكَ وَلاَ الْمَعْرُوفُ مِنْ فَضْلِكَ وَلا مُشْبِهٌ لِما عامَلْتَ بِهِ الْمُوَحِّدينَ مِنْ بِرِّكَ وَاِحْسانِكَ…”.

* الدعاء مفتاح كلّ رحمة
الدعاء مظهر فقر البشر المطلق إلى الغنيّ المطلق؛ وكلّما أدرك الإنسان مدى فقره وحاجته، وكان في عمله مصدّقاً لهذه المعرفة، فإنّ دعاءه لخالق الكون ومناجاته إيّاه وأُنسه به سيكون أكثر وأشدّ تأثيراً. وقد ورد في النصوص الإسلاميّة التعبير عن العلاقة بين الدعاء والإجابة؛ فعن الإمام علي عليه السلام: “الدعاء مفتاح الرحمة”(14).
الدعاء إذاً هو المفتاح الذي نفتح به خزائن رحمة الله التي لا نفاد لها. عن الإمام الصادق عليه السلام: “أكثر من الدعاء، فإنّه مفتاح كلّ رحمة، ونجاح كلّ حاجة، ولا يُنال ما عند الله إلّا بالدعاء، وليس باب يكثر قرعه إلاّ يوشك أن يفتح لصاحبه”(15).

(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالمية، لبنان.
(1) بحار الأنوار، المجلسي، ج93، ص293.
(2) الإمام الخامنئي، خطبة صلاة الجمعة، 25/12/1998م.
(3) مفاتيح الجنان، عباس القمّي، ص92.
(4) الإمام الخامنئي، (م.س).
(5) مفاتيح الجنان، (م.س).
(6) (م.ن).
(7) خطبة صلاة الجمعة، 31/1/1997م.
(8) شرح أصول الكافي، المازندراني، ج10 ص242.
(9) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج4، ص1120.
(10) الكافي، الكليني، ج2، ص351.
(11) ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص43.
(12) بحار الأنوار، (م.س)، ج90، ص305.
(13) (م.ن)، ج74، ص173.
(14) (م.ن)، ج90، ص300.
(15) (م.ن)، ج74، ص295.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل