يرتبط أداء الإنسان وكل سلوكه بنظرته إلى الدنيا: هل الدنيا كل الحياة؟ أم أن الدنيا جزءٌ منها ومعبرٌ إلى حياة خالدة في الآخرة؟ ولعلَّ البعض يستنكر هذا التساؤل، خاصة في أوساطنا الاجتماعية، إذ يعتبر أنَّ الجميع مؤمنون باليوم الآخر، وبالتالي فالأمر محسوم! وفاته أنَّ المقصود هو الإيمان الحقيقي العملي، الذي ينعكس سلوكاً في حياة الإنسان، إذ لا يكفي الإيمان باللسان أو التحليل المنطقي، إن كل حياتنا مرتبطة بنظرتنا العملية إلى الدنيا، التي يعبِّر عنها جلَّ وعلا بالمتاع الزائل القليل: ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَ قَلِيلٌ﴾(التوبة/38)، وما عند الله خيرٌ وأبقى: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾( آل عمران/ 14). وهي التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله: “الدنيا سجن المؤمن وجنَّةُ الكافر”(1).
فالدنيا سجنٌ للمؤمن بما فيها من اختبارات وابتلاءات وتكاليف وتعب وجهد، وبما يحيط به من ظلمٍ وفساد وزينةٍ محرَّمة ووسوسات شيطانية، وبما تتطلبه من تضحيات وتحديات وصبرٍ ومخالفةٍ لهوى النفس، فهي حياة مؤقتةٌ فانيةٌ ينتقل منها إلى جنة الخلد والنعيم الأبدي. ومع شوقه إلى جنة الله تعالى وما فيها تكون الدنيا بمثابة سجنٍ له بما فيها من فناءٍ وبلاء. أمَّا الكافر فيعتبرها كل الحياة التي يتمتع بها فلا حياة بعدها، ومهما عمل من آثام ومنكرات من أجل راحته ولذته، فهو يستثمر دنياه وحياته الوحيدة، لذا يتعامل معها بأنَّها الجنة التي عليه التزود منها من دون ضوابط. وينطبق عليه قول الله تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾(الأعلى/16)، وقول الرسول صلى الله عليه وآله: “يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي الرجل ما تلف من دينه إذا سَلِمَتْ دنياه”(2).
إنَّ تعاملنا مع الدنيا ينعكس على كل حياتنا وسلوكنا، فإذا اعتبرناها معبراً للآخرة، اخترنا سبيل الله خطاً مستقيماً، لا نحيد عن هديه وأوامره ونواهيه، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام/153)، وهذا ما يجعلنا في دائرة الموعودين بالنصر والاستخلاف، مع كل آلام ومرارات الدنيا، إذ إنَّ إرادته جلَّ وعلا أنْ تكون كلمته الأعلى، وأنْ ينتصر الحق على الباطل انتصاراً شاملاً يملأ الدنيا على يد الإمام المهدي عجل الله فرجه، فإذا عملنا في هذه الاتجاه، هانت علينا المصاعب والابتلاءات بما سنحققه في هذه الدنيا، وقد روي عن العياشي بإسناده عن الإمام زين العابدين عجل الله فرجه: أنه قرأ الآية: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
وقال: هم والله شيعتنا أهل البيت. يفعلُ الله ذلك بهم على يدي رجلٍ منَّا، وهو مهدي هذه الأمة، وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “لو لم يبقَ من الدنيا إلا يومٌ واحد لطوَّلَ الله ذلك اليوم، حتى يلي رجلٌ من عترتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلاً وقسطا كما ملئت ظلماً وجورا”(3). لا تستعجل الأمور، فإنَّ لكل أمر أوانه ووقته، وأنت لا تعلم ما يخبئه الله تعالى لك من خيرات وتوفيق، وقد يكون التأخير لمصلحة أكبر وأفضل، فعن الإمام زين العابدين عجل الله فرجه: “ولعلَّ الذي أبطأ عني هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور”(4)، وسيكون وقت الظهور الذي يعم العدل والخير هو الوقت الأفضل لمصلحة المؤمنين والبشرية جمعاء. فإذا أردت أن تتصف أيُّها المؤمن بصفات المؤمنين بالآخرة حقاً، فاستفد مما وصف أمير المؤمنين علي عجل الله فرجهما ينبغي أن يكون عليه المؤمن، فقال: “ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقورٌ عند الهزائز، صبورٌ عند البلاء، شكورٌ عند الرخاء، قانعٌ بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة(5).
(1) الحرَّاني، تحف العقول، ص: 53.
(2) الحرَّاني، تحف العقول، ص: 52.
(3) الشيخ الطبرسي, تفسير مجمع البيان, ج 7, ص: 267.
(4) من دعاء الافتتاح.
(5) الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص: 231.