آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآملي
أولياء الله
لم يعرفِ المسلمون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقّ معرفته وظنّوا أنه أحد نوابغ البشر العاديين، الذي تقع على عاتقه قيادة الناس في حياته، فيمكنهم بعد وفاته أن يعيّنوا أي شخص آخر.
*موهبة إلهية
هؤلاء المسلمون لم يعرفوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو حقاً نابغة، ولكن بالنبوة والرسالة وسائر السِّمات الملكوتية التي هي جميعها مواهب إلهية ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: 124)، وهي من سنخ آخر متميز عن سمات النوابغ، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خليفة الله ومربي النوابغ. وعليه فإن ما نقرأه في بداية الدعاء “اللهم عرّفني نفسك“1 هو من هذه الجهة.
فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم خليفة الله وإذا لم نعرف الله فإننا قطعاً سنتصوّر أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم واحد من نوابغ البشر، وإذا لم نعرف المستخلف عنه – يعني الله جلَّ وعلا – ولم نتعرف إلى أصل قضية الاستخلاف، فإننا لن ندرك معنى الخليفة بشكل صحيح وسننحرف في تطبيق هذا المعنى – أي الخليفة – عن الخلفاء الحقيقيين قطعاً.
*إني جاعلك للناس إماماً
ورد في حديث طويل عن الإمام الرضا عليه السلام قوله: هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمّة فيجوز فيها اختيارهم؟ إنّ الإمامة أجلُّ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم. إنّ الإمامة خصَّ الله عزَّ وجلّ بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخِلّة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره فقال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ (البقرة: 124) فقال الخليل عليه السلام سروراً بها: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ قال الله تبارك وتعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾. فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 72 – 73).
فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورَّثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال جلَّ وتعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 68) فكانت له خاصّة فقلّدها صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام2.
*تتمة الحديث في أوصاف الإمام
الإمام يحلّ حلال الله، ويحرّم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذبّ عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والحجة البالغة. الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار. الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدّجى وأجواز البلدان والقفار، ولجج البحار. الإمام الماء العذب على الظماء والدال على الهدى، والمنجي من الردى. الإمام النار على اليفاع، الحار لمن اصطلى به والدليل في المهالك، من فارقه فهالك. الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة، والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة. الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والأم البرة بالولد الصغير، ومفزع العباد في الداهية النآد. الإمام أمين الله في خلقه، وحجته على عباده وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذابّ عن حرم الله.
الإمام المطهّر من الذنوب والمبرّأ عن العيوب، المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم، نظام الدين، وعزّ المسلمين وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين. فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات، ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألباء، وكلّت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من فضائله، وأقرت بالعجز والتقصير. وكيف يوصف بكله، أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، لا كيف وأنى؟ وهو بحيث النجم من يد المتناولين، ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا 3؟!
*خليفة الله يختاره الله
معرفة الله تنتج معرفة الرسول. والإمام إذا عرف شخص الله جل وعلا وفهم أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم خليفة الله عند ذلك سيفهم أن الطريق الوحيد لتشخيص صلاح وصلاحية الأشياء والقوانين هو الوحي. فكيف يمكننا اختيار خليفة الله بالسقيفة والشورى مع الوجود المبارك لأمير المؤمنين عليه السلام وهو الشخص الذي يعجز كل طائر من الوهم والعقل أن يدرك أوج مقامه، ويطير إليه “لا يرقى إليَّ الطير“4 إذا فتح لسانه بالكلام جرى منه سيل العلوم ولم يملك أحد القدرة في الوقوف قباله “وينحدر عنِّي السيل“5؟
إن عدم معرفة الله ورسوله هو السبب الذي جعلهم يضعون علياً عليه السلام إلى جانب عثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير. لذا، فإن الإمام الصادق عليه السلام ينصحنا أن نقول في زمان الغيبة: “اللهم عرّفني نفسك” حتى أعرف رسولك وخليفتك. وإذا عرف شخص النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فإنه سيعرف خليفته الواقعي، يعني علياً عليه السلام، لأنه الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يجلس في مكان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يقول: “سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض“6.
لم يقل هذا الكلام أيّ شخص ولم يتجرّأ أحد على أن يورد مثل هذا الكلام على لسانه. شخص واحد قال لجميع العلماء سلوني عن كل ما تريدون من أخبار الماضي والمستقبل والأرض والسماء..، هو أمير المؤمنين عليه السلام. وقد أراد بعض الناس ادّعاء مثل ذلك ولكنهم افتضحوا. فهذا الادّعاء العظيم وقْفٌ على الإنسان الكامل المعصوم مثل علي بن أبي طالب عليه السلام. طبعاً هذا المقام ثابت لجميع الأئمة المعصومين عليهم السلام.
*حقيقة الإيمان
عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر عليه السلام: يا أبا حمزة إنما يعبد الله من عرف الله وأما من لا يعرف الله كأنما يعبد غيره هكذا ضالاً، قلت: أصلحك الله وما معرفة الله؟ قال: يصدّق الله ويصدّق محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موالاة علي والائتمام به وبأئمة الهدى من بعده، والبراءة إلى الله من عدوهم، وكذلك عرفان الله. قال: قلت: أصلحك الله أي شيء إذا عملته أنا استكملت حقيقة الإيمان؟ قال: توالي أولياء الله وتعادي أعداء الله وتكون مع الصادقين كما أمرك الله، قال: قلت: ومن أولياء الله؟ فقال: أولياء الله محمد رسول الله وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ثم انتهى الأمر إلينا ثم ابني جعفر، وأومأ إلى جعفر وهو جالس، فمن والى هؤلاء فقد والى أولياء الله وكان مع الصادقين كما أمره الله7.
*ثمرة معرفة الإمام
العلماء المؤمنون، والمؤمنون العقلاء، إذا عرفوا علياً عليه السلام وأيضاً عرفوا الأئمة المعصومين عليهم السلام، فإنهم باتباعهم للتعاليم الإلهية يرون أنفسهم على أنهم خلفاء أولئك الذين نُصبوا من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – الأئمة عليهم السلام – لأن العالم المؤمن خليفة ولي الله وولي الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخليفة مبين لكلام المستخلف عنه – الذين هم الأئمة عليهم السلام – لذا فإن المؤمن يكون متعهداً دائماً باتباع كلامهم عليهم السلام.
النتيجة هي أن ثمرة معرفة الإنسان الكامل (يعني الإمام المعصوم) هي المنجي من الضلال فإن هذا الفيض يتحقق فقط في إشعاع مرجعية تلك الذوات المقدسة وتفسيرهم على أنهم العقل المنفصل للمجتمع البشري كما جاء في دعاء الندبة: “ولولا أنت يا علي لم يُعرَف المؤمنون بعدي. وكان بعده هدى من الضلال، ونوراً من العمى، وحبل الله المتين، وصراطه المستقيم“8.
وقال أبو عبد الله عليه السلام: أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح مفتاحاً، وجعل لكل مفتاح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، من عرفه عرف الله ومن أنكره أنكر الله، ذلك رسول الله ونحن 9.
*ورثة الأنبياء
وعن أبي البختري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ شيئاً منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتهال المبطلين، وتأويل الجاهلين 10.
1- مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص411.
2- الكافي، الكليني، ج1، ص199.
3- الوافي، الفيض الكاشاني، ج3، ص1.
4- معارج نهج البلاغة، علي بن زيد البيهقي، ص80.
5- م.ن.
6- نهج البلاغة، كلمة (189).
7- بحار الأنوار، المجلسي، ج27، ص57.
8- م.ن، ج99، ص106.
9- م.ن، ج2، ص90.
10- الوافي، م.س، ج1، ص141.