جعل الله تعالى ذكرَه غايةً لإقامة الصلاة؛ فبعد التذكّر الشديد، يُفتح لقلب العارف طريق آخر من المعارف، ويُجذب إلى عالم الوحدة حتّى يكون لسان حاله وقلبه متوجّهاً تمام التوجّه لله: “الحمد لله، وأنت كما أثنيت على نفسك، وأعوذ بك منك”. هذا إجمال من سرّ تعلّق باء بسم الله، ونبذة من المعارف التي يُستفاد منها.
* المقصود من البسملة
اعلم أنّ العلماء اختلفوا في متعلّق باء ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (الفاتحة: 1)، وذكر كلٌّ حسب مشربه من العلم والعرفان متعلّقاً لها. ويبدو أنّ ما ورد في بعض الروايات أيضاً من أنّ بسم الله هي (أستعين)، فهو على وفق مذاق العامّة. كما أنّه شائع في كثير من الروايات، ولهذا قال الإمام الرضا عليه السلام في هذا أيضاً: “بسم الله، أي أسِمُ نفسي بِسِمة من سمات الله”(1)، أو أنّ المقصود من الاستعانة ألطف ممّا يدركه العامّة.
* البسملة لكلّ سورة
يحتمل أن يكون ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ في كلّ سورة متعلّقاً بتلك السورة، فمثلاً: ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ في سورة الحمد المباركة، متعلّق بالحمد، وهذا مطابق للذوق العرفانيّ ومسلك أهل المعرفة؛ لأنّه إشارة إلى أنّ حمد الحامدين وثناء المثنين أيضاً بقيمومة اسم الله. بناءً على هذا، فالتسمية في مقدّمة جميع الأقوال والأفعال -التي هي من جملة المستحبّات- للتذكّر أنّ كلّ قول وفعل لا بدّ وأن يتحقّق بقيمومة اسم الله. فبناءً على هذا الاحتمال، معنى ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ في أوائل السور يختلف.
وقال الفقهاء إنّه لا بدّ وأن يتعيّن ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ لكلّ سورة، فإذا قرأ بسم الله بنيّة سورة في الصلاة، فلا يجوز ابتداء سورة أخرى بتلك التسمية. وبالنظر إلى اضمحلال الكثرات في حضرة اسم الله الأعظم، فلـ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ في جميع السور معنى واحد.
* تجلّيات مختلفة
إذا كان النظر نظر العارف بفتح أبواب القلب وبقدم السلوك والرياضات القلبيّة، فيتجلّى الحقّ تعالى بالتجلّيات الفعليّة والذاتيّة لقلوب أصحاب التجلّي، تارةً بنعت الكثرة، وطوراً بنعت الوحدة. وقد أشير إلى هذه التجلّيات في القرآن الشريف تارة بالصراحة مثل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾ (الأعراف: 143)، وأخرى بالإشارة مثل مشاهدات إبراهيم عليه السلام ورسول الله عليهما السلام المذكورة في سورتَي الأنعام والنجم. والإشارة إلى ذلك في الأخبار وأدعية المعصومين عليهم السلام كثيرة، خصوصاً في دعاء السمات العظيم الشأن، الذي يحتوي على المضامين العالية والمعارف الكثيرة ما يغشي شميمه قلب العارف، ونسيمه ينفخ النفخة الإلهيّة في روع السالك مثل قوله: “وبنور وجهك الذي تجلّيت به للجبل، فجعلته دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، وبمجدك الذي ظهر على طور سيناء، فكلّمت به عبدك ورسولك موسى بن عمران عليه السلام”(2).
* ﴿بِسْمِ﴾
أمّا حقيقة الاسم، فإنّ لها مقاماً غيبيّاً وغيب الغيبيّ، وسريّاً وسرّ السرّيّ، ومقام ظهور وظهور الظهور، وحيث إنّ الاسم علامة للحقّ، فكلّ اسم يكون أقرب إلى أفق الوحدة وأبعد من عالم الكثرة، فهو في الاسميّة أكمل.
* ﴿اللهِ﴾
إنّ مقام اسم ﴿اللهِ﴾ مقامُ الظهور بالفيض المقدّس، إن كان المراد بالاسم التعيّنات الوجوديّة. وفناء الاسم في المسمّى بلا إشكال. ولعلّ الآية الكريمة: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (النور: 35)، والآية الكريمة: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ (الزحرف: 84) تشيران إلى هذا المقام.
* ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
يمكن أن يكونا (مقاما الرحمن الرحيم) صفتي الاسم أو صفتي الله، والأنسب أن يكونا صفتي الاسم؛ لأنّهما في التحميد صفتا الله. وفي التكرار أيضاً نكتة بلاغة، إن عُدّا صفة للاسم، فيؤيّد ذلك أنّ المراد من الاسم الأسماء العينيّة؛ لأنّ المتّصف بالصفات الرحمانيّة والرحيميّة ليس إلّا الأسماء العينيّة؛ فالرحمة الرحمانيّة عامّةٌ لجميع الموجودات، ولكنّها من الصفات الخاصّة بالحقّ؛ لأنّه ليس له شريك في بسط أصل الوجود، وسائر الموجودات قاصرة الأيدي، عن الرحمة الإيجاديّة، ولا مؤثّر في الوجود إلّا الله، ولا إله في دار التحقّق إلّا الله. وأمّا الرحمة الرحيميّة وهداية هداة الطريق أيضاً من رشحاتها، فهي مخصوصة للسعداء من العليّين، ولكنّها من الصفات العامّة التي لسائر الموجودات أيضاً منها حظّ ونصيب.
وبنظر آخر، الرحمة الرحيميّة أيضاً مختصّة بالحقّ تعالى، وليس لغيره فيها شركة. وقد بيّنت الروايات الرحمة الرحيميّة بما يختلف على حسب اختلاف النظر والاعتبار: “إنّ الرحمن اسم خاصّ لصفة عامّة، والرحيم اسم عام لصفة خاصّة”(3)، وقالوا: “الرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصّة”(4)، وقالوا: “يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة”(5)، “يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما”(6).
(*) مستفاد من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، المصباح الثاني، الفصل الخامس.
1- عيون أخبار الرضا عليه السلام، الصدوق، ج1، ص 236.
2- مصباح المتهجّد، الطوسي، ص 419.
3- تفسير الصافي، الكاشاني، ج1، ص81.
4- الكافي، الكليني، ج1، ص114.
5- بحار الأنوار، المجلسي، ج88، ص355.
6- الكافي، (م.س.)، ج2، ص557.