حينما يتقدم الزوجان بالعمر، وبزواج أبنائهم واستقرارهم بحياة مستقلة عنهما، يزداد تعلّق كلّ منهما بالآخر، فتكبر دائرة الوحشة بزواج أحد أبنائهم إلى زواج الابن الأخير فأصبح البيت الكبير- بيت العائلة- لا يملك صفات العائلة الحقيقية المتكاملة إلا في أيام العطل حين يتجمع الأبناء.. وتكمل الحسرة بموت أحد الزوجين بعد مرور عِشرة طويلة تشاركوا فيها أعباء الحياة سوياً، فحين وفاة الزوجة خاصة يلجأ الزوج الأرمل للزواج ثانية، ويلاقي اعتراضاً كبيراً من أبنائه، وتحصل الخلافات وهذا ما حدث بين الأب وابنه:
الأب:
عشت مع زوجتي الأولى لأكثر من خمسة وأربعين عاماً شاركتني أفراحي وأحزاني، وتقبّلتني بصفاتي الحسنة والسيئة، وساندتني بكل ما تستطيع وتملك إلى أن كبرت أسرتنا، والحمد لله استطعنا تنشئة أولادنا نشأة طيبة إلى أن أكملوا دراستهم الجامعية، وساندناهم في زواجهم إلى أن استقلوا بحياتهم العائلية، ولم نساند فقط الأولاد، فبناتنا أيضا لم نتركهن يتحملن أعباء الحياة لوحدهن كما تحملناها نحن، وعملنا على مساعدة كل أولادنا وبناتنا بكلّ ما نستطيع إلى أن بقينا لوحدنا في بيت كبير موحش لا تتركنا وحشتنا إلا في نهاية الأسبوع حين زيارة الأبناء والأحفاد، ولا نلوم أيّاً منهم فمن حقّهم أن يستقروا في حياتهم، لكن الصدمة كانت كبيرة عليَّ حينما شاء الله بوفاة زوجتي، فكانت الصدمة شديدة عليّ ولكني مؤمن بأمر الله تعالى كثيراً، وبقي معي أولادي في الأيام الأولى وبالمناوبة فيما بينهم كي يملأوا عليَّ وحشتي ووحدتي، لكنهم لم يبقوا طويلاً فكلّ منهم لديه أشغاله وحياته المستقلة، وفي أوقاتٍ قليلة يقومون بزيارتي، لكنني مللت من العيش وحدي، فقررت الزواج، وكانت الصدمة كبيرة عليّ حينما رأيت أولادي يعترضون وبشدة على زواجي، لم أتدخل بحياة أيّ منهم إلا بالمساندة ولم أنتقدهم؛ لأن أيّاً منهم لم يفكر حتى للعيش معي في هذا البيت الكبير الموحش، ولكني لم أيأس من إقناعهم وتقبلهم للأمر وفي الوقت نفسه كنتُ مصراً على قراري، وبالفعل عن طريق جارتنا وجدت لي امرأة لتتزوجني، وحصل القبول من الطرفين، واقتنع أبنائي بالأمر إلا ابني الأوسط، فكان معترضاً بشدة، ولكني تزوجت بالفعل لأضع نهاية لوحدتي.
الابن:
صُدمنا أنا وإخوتي كثيراً بوفاة أمي، لكننا مؤمنون راضون بالقدر الذي كتبه الله لنا، شعرنا بالضعف والألم الشديد من بعد وفاتها والذي ترك فينا الأثر الواضح، لكنا وبكلّ ما نستطيع حاولنا إخفاء شعورنا بالألم أمام والدنا لنخفّف عنه، ولم نتركه لوحده، فكنّا نتناوب فيما بيننا لنبيت عنده، ولكن كلّ شخص فينا لديه عمله الذي لا يستطيع التأخر عنه، ومع هذا لم نتركه فرتّبنا أوقاتنا فيما بيننا لزيارته كي لا يشعر بالوحدة، ولا أنكر أن هناك أوقات قضاها لوحده، لكننا أمضينا وقت فراغنا معه، وبكلّ ما نستطيع على حساب عائلتنا، وكان الخبر الذي فاجأنا كثيراً هو قرار زواجه حتى لم يصبر على مرور سنة واحدة بعد وفاة أمي كي يتخذ بعدها قرار كهذا، ولم يكن ينتظر منّا أيّ موافقة، فكان إخباره لنا بقراره فقط لإعلامنا لا غير وإنّ قراراً كهذا صعب بالنسبة لي، وخاصة لعلاقتي الكبيرة بأمي حتى أكثر من بقية إخوتي، وحينما بدأنا أنا وإخوتي بتقبل الأمر، فوجئنا بقرار أبي بأنه وجد المرأة التي سيتزوجها والتي تصغره بخمسة وعشرين عاماً وكان شرطها الوحيد للزواج بأبي هي أن لا يمنعها من إنجاب الأولاد حتى لو كان طفلاً واحداً، واعترضت لذلك فبهذا العمر يكون لأبي طفل صغير، ويكون لنا أخ بعمر أولادنا، كيف سينظر لنا الناس وهم يشاهدون أبي يتزوج بامرأة صغيرة، ولديه طفل صغير بعمر أحفاده، وكيف لشخص قد تجاوز الخمسة والستين عاماً أن يقوم بتربية طفل صغير وهو بهذا العمر، وهل سيُكتب له العمر الطويل ليشاهده وهو يكبر كما فعل معنا، إني لم أتقبل هذا الأمر ولن أتقبله ولا أريد أن أُغضب والدي في الوقت نفسه، لكن لم ترجع علاقتنا كما في السابق حين زواجه.
تزوج الأب وأصبح له ابن، وهو الآن يبلغ من العمر سبع عشرة سنة، وكانت حياته مع زوجته الثانية جيدة، ولكن ما حصل للابن الذي عارض زواج أبيه؟ بعد عشر سنوات من زواج الأب توفيت زوجة الابن، وبعد خمس سنوات من وفاتها قرر الزواج ثانية، ولكن أيضاً قبل زواجه لقي اعتراضاً كبيراً من ابنته الكبرى، وعمل أبوه إقناع حفيدته كي يتزوج ابنه، وبالفعل بفضل والده وافقت الابنة لكن بشرط أن لا يكون له أولاد من زوجته الثانية، وبالفعل تزوج من امرأة تصغره بعشرين عاماً وهو الآن ينتظر مولوداً جديداً.. وهكذا دارت الأيام على الابن وجعلته في موقف أبيه نفسه فكما تُدين تُدان.