Search
Close this search box.

شُكرٌ مُستمرّ … كشجرٍ مُثمِرٍ

شُكرٌ مُستمرّ … كشجرٍ مُثمِرٍ
الكاتب : أحمد سالم إسماعيل
هل حصل أن ضاق صدرُك؟! هل شعرت يوماً أنّك وحيدٌ؟! أَ وَهل مررت بحالة من الكآبة لم تعرفْ سببَها؟! فإذا مررت بهذه الأمور فجرّب أن تستمع إلى القرآن الكريم، بصوت قارئ تحبّ أن تستمع إليه، وافتح قلبك وأنصت إلى كلمات القرآن ومعانيها، وتدبّر فيها، فإّن الله عزّ وجلّ قد دعاك إلى التدبُّر في آياته إذ قال: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ‌لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [سورة ص: 29].
فإذا فعلت ذلك وأنصتَّ إليه؛ سيبدأ عقلك بالتفكُّر؛ وكثيرة هي موجبات التفكُّر في القرآن، فلو مررت بقوله تعالى: ﴿‌اعْمَلُوا ‌آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ [سورة سبأ: 13]؛ ستقف عنده وتتفكّر، كيف يعملون شُكراً؟
جاء هذا التعبير في الآية الكريمة بعد أن عدّدت جملة من النِّعَم التي أنعم بها الله على آل داود؛ قال عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ‌اعْمَلُوا ‌آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سورة سبأ: 10-13]، ويمكن عدّ هذه النعم فيما يأتي:
1. كانت الجبال والطيور تُسبّح الله مع النبي داوود (عليه السّلام)، وهذه معجزة أشار إليها القرآن الكريم في موضعين آخرين، قال: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ ‌يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [سورة الأنبياء: 79]، وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ ‌يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ [سورة ص: 17-18].
2. ليست الجبال فقط، بل الطير أيضاً، ومرّ ذكرها مع الجبال في النقطة السابقة؛ وقد كان النبي داوود (عليه السلام) يعلم منطق الطير، وهذه نعمة أخرى؛ قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ ‌دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ [سورة النمل: 16].
3. إلانة الحديد؛ وهي معجزة أيضاً، فهو يصنع الدروع بيديه دون أن يصهره، وكأنّ الحديد أصبح بين يديه كالعجين! يُصيّره كيف شاء، فصار يصنع الدروع ﴿سابِغاتٍ﴾ واسعة.
4. تسخير الريح؛ فكانت تسير به من أول النهار إلى الظهر مسيرَ شهرٍ، وتسير به كذلك من الظهر إلى آخر النهار مسيرَ شهرٍ، فيقطع بها مسافة شهرين بساعات نهار واحد من أوله إلى آخره.
5. إسالة عين القطر؛ أي: جعل الله له النحاس يجري كالعين الجارية.
6. سخّر له الجنّ يعملون بين يديه.
بعد كلّ هذه النِّعَم والمعجزات يقول الله عزّ وجلّ: ﴿‌اعْمَلُوا ‌آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾؛ أي: أن عملهم وعبادتهم يكونان شُكراً لله على ما أنعم به عليهم.
إنّ نعم الله سبحانه علينا بمنزلة بذرةٍ زرعها زارعٌ فأنبتتْ؛ فنمتْ وأصبحتْ شجرة كبيرة مثمرة، وهذه أوّل نعمة مادّيّة؛ هي نعمة الخلق والإيجاد، ثمّ ما زالت نِعَم الله تتواصل علينا، بتهيئة ظروف الحياة من مأكل وملبس وقلوب عطوفة علينا مُنذ الصغر، ثم إلى مرحلة الصِّبا؛ وكأنّ أحدَنا شجرةٌ نمتْ على الغذاء والرعاية حتّى أصبحت قادرة على العطاء.
فإذا بلغ الإنسان مبلغ التكليف الشرعيّ جاء دور الشُّكر لله تعالى على كلّ نعمه، وكيف نشكر؟ الجواب: بالطاعة، وماذا أراد الله منا؟ الجواب: أرادنا أن نلتزم بأداء الواجبات ونجتنب المحرّمات، ووعدنا على ذلك الجنة؛ مع أنه عزّ وجلّ المبتدئ بالنّعمة والعطاء، وجعل استمرار العطاء مرهوناً بالشُّكر، فقال: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ ‌لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [سورة إبراهيم: 7].
فالشجرة التي تعصي زارِعَها، وتمنعه من ثمارها، أو تعطيه ثماراً فاسدة؛ تلك شجرة لم تشكر نعمة التربية والسقي والمداراة، وسيكون مصيرها أحد أمرين؛ إمّا أن يُهملها زارعُها فتموت، وإمّا أن يرحمها فيستمر بمداراتها مع ما هي عليه من خذلانه وعصيانه.
وهكذا الإنسان، فإنّه إذا عبد الله عزّ وجلّ فقد شكره، ويتحقق الشكر باستعمال تلك النعمة في طاعة الله عزّ وجلّ، فإذا فعل ذلك فإنّ الله يبارك فيما أنعم عليه ويزيده من فضله؛ وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين (عليه السّلام)؛ فقال: «ومَن أُعطِيَ الشُّكرَ لم يُحرمِ الزّيادةَ» [نهج البلاغة: من الحكمة 135]، على أنّ الشكر هو بحد ذاته نعمة أخرى يَمُنّ الله بها على عباده؛ وإلى ذلك أشار إمامنا زين العابدين (عليه السلام) في مناجاة الشاكرين: «فآلاؤك جمّةٌ ضَعُفَ لساني عن إحصائها، ونَعماؤك كثيرة قَصُرَ فَهمي عن إدراكها فضلا عن استقصائها. فكيف لي بتحصيل الشكر وشُكري إيّاك يفتقرُ إلى شُكرٍ؟! فكلّما قلت: لك الحمدُ، وجب عليّ لذلك أن أقول: لك الحمدُ» [الصحيفة السجّاديّة: من دعائه 187].
وقد ذكر القرآن الكريم أنّ النفع من وراء الشّكر يعود على الإنسان نفسه؛ فقال: ﴿وَمَنْ ‌شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [سورة النمل: 40]، وقال أيضاً: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا ‌يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [سورة الزمر: 7]، وأشارت الآيتان إلى أنّ شُكر العباد لا يعود بالنفع على الله، وكفرُهم لا يعود بالضرر عليه، بل إنّ ما كان من عاقبة الشكر (وهو النفع والزيادة) وما كان من عاقبة الكفر (وهو المنع والحرمان) – أمران يعودان على الإنسان نفسه، وإنّ الله تعالى غنيّ كريم، لا تضرّه معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه. والحمد لله أوّلاً وآخراً.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل