سألتَني ـ بنيَّ ـ عن الحكمة، ونِعمَ ما سألت عنه… فالحكمة ثمرة كلّ علم، ونتيجة كلّ بحث، وخلاصة كلّ فكر.. ومن لم ينل من علمه وبحثه وفكره الحكمة، لم ينل شيئًا.. وكان كمن زرع ولم يحصد، أو حصد ولم يأكل. فإن أردت أن تحصل عليها، فاشحذ ذهنك، ونشّط عقلك، واستعمل كلّ ما آتاك الله من لطائف… فالحكمة لا ينالها الكسالى. ولا يتحقّق بها المقعدون…؛ بل هي هديّة الله للذين أعملوا عقولهم ولم يعطّلوها. وأعملوا جوارحهم، فلم تقعد بهم عن أيّ خير.
والحكمة ثمرة التأمّل العميق الذي لا يستسلم صاحبه لأيّ هوًى.
ولا يجري مع أيّ نزعة، بل يتثبت ويتأنّى، إلى أن يظهر الحقّ… فلكلّ حقّ علامات، ولكلّ باطل رايات… ولا يمكن للحكيم أن يستسلم لأيّ راية، ما لم يرَ علائم الحقّ عليها.
والحكمة ثمرة التجربة والتواصل والتعارف والحوار...
فالحكيم ليس ذلك المستكبر الذي لا يقنع إلّا بما عند؛ بل هو الذي يستفيد من كلّ رأي. ويضمّ إلى عقله كلّ العقول. فلا يقع فيما وقع فيه غيره من الشباك. ولا يُلدغ من نفس الجحور التي لدغوا بها.
والحكمة ثمرة الإخلاص والصدق.
ذلك أنّها هبة من الله، والله لا يهب فضله إلا للصادقين المخلصين الذين تخلّصوا من كلّ أنانيّاتهم وأهوائهم، فصاروا رموزًا للحقّ، ومصاديق للهدى، ومنارات للصراط المستقيم.
والحكمة ثمرة المحبّة.
ذلك أنّك لن تصل للحقّ ما لم تحبّه، فالحبّ هو الذي يجعلك مثل تلك الصفحة البيضاء التي تتقبّل كلّ ما يكتبه عليها الحبيب. والله لا يكتب في قلبك الحكمة حتى تمتلئ محبّة له، وتفنى به عمّن سواه.
والحكمة ثمرة الاتّباع الصادق
للذين جعلهم الله وسائط الهدى لعباده، فيستحيل على الحكمة أن تتنزّل على الذين أبوا السجود لآدم؛ ذلك أنّ آدم لم يكن سوى رمز للهداية والكمال، فمن سجد له تحقّق بالكمال، ومن تكبّر عليه حصل له ما حصل لإبليس.
والحكمة ثمرة الصمت والسكون…
ذلك أنّ المضطربين الذين ملأوا الكون صراخًا لن يصلوا إلى شيء.. فأصواتهم تحجُب عنهم الحقائق، واضطرابهم يمنع عنهم استقرارها.
هذه ـ بنيّ منابع الحكمة، فإن شئت أن تكون حكيمًا. فاعمل بها. ولا تغرنّك كثرة العلوم؛ فالعلم الذي لا ينتج حكمة. وَلا يفيد تربية. ولا يُثمر ترفّعًا وسموًّا. لن يفيدك شيئًا؛ بل هو الجهل عينه.
وقد روي في الأخبار أنّ بعضهم صحب بعض المشايخ مدّة طويلة. وبعد أن كتب الله لهما الفراق. سأل الشيخ تلميذه: منذ متى صحبتَني؟ فقال التلميذ: منذ ثلاثة وثلاثين سنة، فقال الشيخ: فماذا تعلّمت منّي في هذه الفترة؟ فقال التلميذ: ثماني مسائل، فقال الشيخ: إنّا لله وإنّا إليه راجعون؛ ذهب عمري معك، ولم تتعلّم إلّا ثماني مسائل؟! قال التلميذ: يا أستاذ لم أتعلّم غيرها، ولا أحبّ أن أكذب، فقال الأستاذ: هاتِ ما عندك لأسمع.
قال التلميذ: أمّا الأولى.
فإنّي نظرتُ إلى الخلق، فرأيت كلّ واحد يحبّ محبوبً، فإذا ذهب إلى القبر فارقه محبوبه، فجعلتُ الحسنات محبوبي. فإذا دخلت القبر دخَلَتْ معي.
أمّا الثانية.
فنظرتُ في قول الله عزّ وجلّ: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) (سورة النازعات، الآيتان40-41)، فعلمتُ أنّ قوله سبحانه وتعالى هو الحقّ، فأجهدتُ نفسي في دفع الهوى حتى استقرّت على طاعة الله تعالى.
وأما الثالثة.
فنظرتُ إلى الخلق فرأيتُ كلّ من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه، ثم نظرت إلى قول الله عزّ وجلّ: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ) (شورة النحل، الآية 96)، فكلّما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجّهته إلى الله ليبقى عنده محفوظًا.
وأمّا الرابعة.
فنظرت إلى الخلق، فرأيت كلّ واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثمّ نظرتُ إلى قول الله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ) (سورة الحجرات، الآية 13)، فعملتُ في التقوى حتى أكونَ عند الله كريمًا.
وأما الخامسة.
فنظرتُ إلى الخلق وهم يطعنُ بعضهم في بعض، ويلعن بعضهم بعضًا، وأصل هذا كلّه الحسد، ثمّ نظرتُ إلى قول الله عزّ وجلّ: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ) (سورة الزخرف، الآية 32)، فتركتُ الحسد، وعلمتُ أنّ القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركتُ عداوة الخلق عنّي.
وأمّا السادسة.
فنظرتُ إلى الخلق يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضًا، فرجعتُ إلى قول الله عزّ وجلّ: (إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ) (سورة فاطر، الآية 6)، فعاديته وحده، واجتهدت في أخذ حذري منه؛ لأنّ الله تعالى شهد عليه أنّه عدوّ لي، فتركت عداوة الخلق غيره.
وأما السابعة.
فنظرت إلى الخلق، فرأيت كلّ واحد منهم يطلب هذه الكسرة، فيذلّ فيها نفسه، ويدخل في ما لا يحلّ له، ثم نظرت إلى قوله تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا) (سورة هود، الآية 6)، فعلمتُ أنّي واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها، فاشتغلت بما لله تعالى عليّ وتركت ما لي عنده.
أمّا الثامنة.
فنظرت إلى الخلق فرأيتهم كلّهم متوكلين على مخلوق. هذا على ضيعته، وهذا على صحّة بدنه. وكلّ مخلوق متوكّل على مخلوق مثله، فرجعت إلى قوله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥٓ) (سورة الطلاق، الآية 3)، فتوكّلت على الله عزّ وجلّ فهو حسبي.
هذه ـ بني ـ بعض ثمار الحكمة التي قطفها هذا التلميذ النجيب من خلال صحبته لشيخه. فاحرص على أن يكون لك مثلها، أو احرص على أن تزيد عليها. فالعلمُ الذي لا يطهّر نفسك. ولا يسمو بروحك لن يزيدك من حقيقتك إلّا بعدًا.