Search
Close this search box.

شهداء استعدّوا للرحيل

شهداء استعدّوا للرحيل

لم تكن الدنيا لهم، نفضوا عنهم غبارها، تركوها لأهلها ومضوا بخفّة، فرحلوا خاليي الوفاض من كلّ حِملٍ ثقيل قد ينهكهم في رحلتهم الطويلة نحو الخلود، حيث نِعم الجوار. فالزاد كلّ جميل؛ دعوات صادقة وذمّة مبرأة. إنّهم الذين استحقّوا بجدارة رتبة الشهادة.

لمن يقرأ هذه السطور المتواضعة، نعلم أنّكم على دراية تامّة بأخلاقيّات الشهداء، وحرصهم الشديد على ردّ المظالم، وقضاء الدين، وتبرئة الذمّة، وقضاء ما فاتهم من الواجبات العباديّة،… ولكن في ما يأتي، ستتعرّفون عن كثب على قصصهم، المليئة بالعِبر والدروس، علّنا نقتدي بهم. 

“لقد برّأتُ ذمّتي” 

كان التفكير بسداد ديونه لا يفارقه لحظةً، إلى جانب مساعدته لأمّه التي ربّته يتيم الأب، وتخطيطه لبناء حياة زوجيّة هانئة. فقد كان الشهيد عماد جابر شديد الحرص على تسديد ديونه كافّة قبل الشهادة. حتّى حفظت خطيبته جملته التي لطالما ردّدها: “همّي الأكبر أن أسدّد كلّ الديون قبل موتي”، فاختار لنفسه التعب المضاعف. ساعياً في عمل آخر إلى جانب عمله الجهاديّ، حتّى استطاع تأدية ما في ذمّته من دَين قبل شهر من حرب تمّوز عام 2006م. فقال حينها لخطيبته: “من الآن صار بإمكاني تجهيز منزلنا، فراتبي الآن صار ملكي”.

جهّز الشهيد عماد كلّ مستلزمات منزله الذي لم يسكنه، وقبل مغادرته إلى ساحة المعركة في أحد أيّام شهر تمّوز. طلب من رفيقة دربه الدعاء له بالشهادة: “لقد برّأتُ ذمّتي، فلم يبقَ سواكِ في ذمّتي، سامحيني إن قصرت”!

لحظاتكم ليست ملككم 

قد يكون تفكير الشهيد مصطفى مزنر غريباً لدى بعض الناس. فهل يُخيّل لأحد أنّه كان حريصاً على أن لا يُضيّع أيّ دقيقة من عمره القصير. لدرجة أنّه عندما كان يمشي في الطريق، كان يطلب من خطيبته الإسراع في خطواتها. قائلاً: “أسرعي أسرعي، فالحياة قصيرة، يجب أن لا نهدرها في المشي على الطريق وطول المسافات. بل يجب علينا استغلالها بإنجاز أمر مهمّ”.

دقّة الشهيد مصطفى وصلت إلى حدّ الاهتمام بأمور دينيّة قد تكون بسيطةً في نظرنا. ولكنّها عظيمة في أعين من يضع نصب عينيه الشهادة؛ فقد أوصى بإعطاء خطيبته مهرها بعد شهادته. حتّى أنّها تذكر أنّه كان قد أوصاها وأهله أن يطلبوا المسامحة وبراءة الذمّة بعد شهادته. من أيّ شخص يلتقون به، وكان له صلة به. لعلّه قد آذاه يوماً دون قصد.

تذكر خطيبته: “في آخر ليلة قدر أحييناها سويّاً، لفتني اهتمامه بأداء أدقّ المستحبّات. ومنها طلب العلم؛ فقد كان يحيي هذه الليالي المباركة حتّى الفجر من دون تعب”.

على أمل التواصل قريباً

“انكسر إبريق لبن زجاجيّ أثناء تنظيفه، وكذلك كوب شاي عجميّ صغير، وصينيّة بلاستيك. استخدمنا 2 كيلو أرزّ، وشاياً، وكيلو سكّر، و3 رشّات من البهارات، و3 حبّات بصل…”.

هي جزء من لائحة طويلة خطّت بأيدي مجاهدين لجأوا إلى منزل المرحوم الحاج أحمد حمزة في بلدة الشهابيّة الجنوبيّة خلال حرب تمّوز للضرورة؛ حيث كانوا يسعفون جريحاً منهم، لم يقوَ على المغادرة مدةً، لم يُغفل هؤلاء الشبّان حقّ صاحب الدار، وهم في ساحة المعركة، تركوا له رسالة. ذكروا فيها كلّ ما اضطرّوا إلى استخدامه بالمقادير المفصّلة.

فأيّ المجاهدين هم؟! ممّا جاء في الرسالة: “جانب عائلة المرحوم أحمد حمزة، تحيّة وبعد… لقد اضطررنا في هذه الفترة إلى دخول منزلكم الكريم، والبقاء فيه أيّاماً عدّة، وقد دفعتنا الحاجة إلى الاستفادة من بعض المواد الغذائيّة والأمتعة الموجودة فيه. وعليه، نأمل منكم المسامحة، وعلى أمل التواصل قريباً”، وينتهي الكلام عند عتبة هذه السطور. التي تخجل حروفها من أمانة مجاهدين حملوا دماءهم الزكيّة على أكفّهم ومضوا غير آبهين بكلّ مباهج الحياة، واضعين نصب أعينهم هدفاً أسمى: إمّا النصر أو الشهادة، ولكنّهم، قبل أن يمضوا، طلبوا المسامحة. حتّى يسدّدهم الله في خطواتهم وتُقبل شهادتهم.

حرص

“كان أوّل ما يقوم به عند استلام راتبه، هو المسارعة إلى جمعيّة القرض الحسن ليسدّد القسط المطلوب منه، فقد اضطرّ لاستقراض مبلغ من المال لإتمام مستلزمات منزله، الذي لم يسكنه. لم يؤخّر قسطاً، ولم يؤجّل أو يتراخى في قضاء ما عليه من مستلزمات”، إنّه الشهيد حسين البرزاوي. الذي تذكر والدته (وهي والدة الشهيد علي البرزاوي) مدى حرصه على تأدية ما عليه من أقساط قبل شهادته. تضيف الوالدة: “في آخر يوم له بيننا، سمعته يطلب المسامحة من والدة خطيبته، فأدركتُ حينها أنّه لن يعود”!

ومضى مطمئناً

لا يختلف حال أولئك الشهداء عن حال الشهيد عبّاس عثمان، الذي كان عمله الجهاديّ يفرض عليه أن يغيب لفترات طويلة، لذلك، عوّد زوجته وأفراد عائلته على الاعتماد على أنفسهم. أوصى مراراً وتكراراً زوجته بتربية ابنتَيه الاثنتَين على خطى أهل البيت عليهم السلام. ولمّا أحسّ باقتراب موعد الرحيل. حرص على تسديد ديونه كافّة، وعمل على قضاء كلّ واجباته الدينيّة، وتبرئة ذمّته، ومضى مطمئنّاً.

“أذيب عتبهم بزيارتي”

كثيرة هي قصصهم المفعمة بطيب أرواحهم الطاهرة، والتي لن تفسح لنا السطور القليلة المجال لذكر مآثرهم جميعاً، إلّا بقدر ما يتيّسر لنا. ننتقل هذه المرّة للحديث عن الشهيد علي أحمد مظلوم، الذي كان يعمل بلّاطاً إلى جانب عمله الجهاديّ. تخبرنا والدته، أنّه قرّر مزاولة عمل آخر، رغم التعب، من أجل تسديد كافّة الديون المترتّبة عليه. كان حريصاً على أن يخبر زوجته بكلّ ما عليه من ديون، ومن قضاء واجبات عباديّة، لإيفائها بعد شهادته، في حال لم يتمكّن من الإيفاء بها في حياته.

كان حريصاً للغاية على زيارة أرحامه فور عودته من عمله الجهاديّ، أمّا عن السبب، فكان يقول: “لعلّ في قلب أحد منهم عتب عليّ فأذيبه بزيارتي”. وتضيف الوالدة أنّها استرجعت كلّ ما كان يحدّثها به قبل شهادته، فتقول: “كان الشهيد عليّ يهيّئ أرواحنا لرحيله، فيوصيني بأولاده، وبالاعتماد على أنفسنا إن استشهد، فهو ابني البكر الذي حلّ مكان والده بعد وفاته”.

أمّا ابن أخته، الشهيد أحمد فخر الدين، فقد ورث عنه كلّ صفاته الجميلة؛ تذكر الوالدة آخر يوم له قبل التوجّه إلى المعركة، حيث أصرّ على زيارة بيوت الحيّ بيتاً بيتاً، وراح يطلب المسامحة من أقربائه وجيرانه.

البوصلة إلى الطريق الصحيح

هي أرواح خفيفة كالنسيم، زارت دنيانا لتترك آثارها الحلوة فينا، فنقتدي بها وبجميل صنعها. قد نتغافل أحياناً عن أذى أحدهم لبساطة السبب، ونؤجّل تسديد ديون مستحقّة، ونتراخى في قضاء واجباتنا العباديّة لغد أو لبعده، فتأتي هذه القصص لتوقظنا من غفلتنا؛ فالعمر غفلة، يمرّ سريعاً دون أن نشعر، وقد يباغتنا الموت فجأةً، فلا تبقى فرصة للندم ولقضاء ما في ذمّتنا من حقوق وواجبات. فليكن هؤلاء الشهداء بوصلتنا إلى الطريق الصواب، فلا نؤجّل قضاء ما علينا من واجبات إلى الغد.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل