يحدّد لنا القرآن الكريم، بشكلٍ صريح وواضح، أنّ الهدف الحقيقيّ من خلق السموات والأرض هو معرفة الله عزّ وجلّ. والمقصود من معرفة الله؛ معرفة صفاته تعالى، التي لا حدّ لها ولا منتهى.
قال الله سبحانه:
﴿اللَّهُ الَّذي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كلِّ شَيْءٍ قَديرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْما﴾ (الطلاق: 12). ويترجم لنا الإمام عليّ عليه السلام وحي السماء بكلامه النورانيّ. فيقول في الخطبة الأولى من نهج البلاغة: “أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه”(2).
ويرسم لنا القرآن الكريم أيضاً الإطار والطريق العمليّ لبلوغ هذا الهدف السامي.
وهو التفكّر والتدبّر في أعظم آيتين لله تعالى في هذا الوجود وهما؛ الآفاق والنفس الإنسانيّة: ﴿سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهيد﴾ (فصلت: 53).
فمعرفة النفس هي طريق لمعرفة أنّه الله والحقّ الذي لا إله ولا حقّ سواه في هذا العالم.
والمراد بمعرفة النفس هو معرفة حقيقتها وجوهرها. فعندما ينظر الإنسان إلى نفسه بعين الصدق والإنصاف.
لن يجد فيها غير النقص والاحتياج والضعف، وكذلك التوق الشديد نحو الكمال والقدرة التي لا حدّ لها؛ لأنّها في الحقيقة فقر محض يرنو نحو الغنيّ المطلق على الدوام؛ نحو الله تعالى.
قال عزّ اسمه في كتابه الكريم: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَميد﴾ (فاطر: 15). وهذه الحقيقة هي نفسها التي حكاها القرآن الكريم على لسان الكليم موسى عليه السلام عندما قال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقير﴾ (القصص: 24).
من هنا، من عرف نفسه بِذلِّها وعجْزِها وفقْرِها، عرف الله بعزّه وقدرته وغناه. ليتوجّه قلبه وكلّ وجوده إليه بالطاعة والعبوديّة له. لعلّه يحظى من فيضه المقدّس بجذوة تنير له دربه وسبيله نحو لقاء محبوبه الحقيقيّ والأوحد.
لذا، عدّ الإمام عليّ عليه السلام “معرفة النفس أنفع المعارف”(3)، وأهمّ صفة في العارف الحقيقيّ، فقال عليه السلام: “العارف من عرف نفسه فأعتقها، ونزّهها عن كلّ ما يبعدها”(4)؛ أي نزّهها عن أسر الأهواء والشهوات، وعن كلّ ما يبعدها عن الله تعالى.
1.العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 2، ص 32.
2.نهج البلاغة، ج 1، ص 15.
3.الشيخ الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 712.
4.المصدر نفسه، ص 96.