Search
Close this search box.

تسمية السيدة الزهراء

تسمية السيدة الزهراء

تعتبر تسمية الطفل المولود أو التسمية بصورة عامة من سنن الله تعالى الأولى وقد سمَّى الله تعالى آدم وحوَّاء يوم خلقهما، وعلَّم آدم الأسماء كلها، وقد سار الناس على هذه السنة أو السيرة. فالتسمية لا بدَّ منها عند البشر المتحضّر، ولعل البشر المتوحش في الغابات بسبب ابتعادهم عن الحضارة لا يعرفون التسمية ولا يسمُّون.

وتختلف أسماء البشر على مرِّ الأجيال والعصور، وعلى اختلاف لغاتها فقد توجد هناك مناسبة بين الاسم والمسمَّى. وقد لا توجد، وقد يكون للإسلام معنى في قاموس اللغة وقد لا يكون له معنى، بل هو اسم مخترع لا من مادة لغوية.

أما أولياء الله فإنَّ التسمية تعتبر عندهم ذات أهمية كبرى. ولا يخلو الأمر عن الحقيقة، أنَّ الإنسان ينادى ويدعى باسمه، فكم هناك فرق بين الاسم الحسن الجيِّد، وبين القبيح السيئ؟

وكم فرق بين تأثير نفس صاحب الاسم بهذا وذاك؟ وهكذا تأثر السامع للاسم؟ فهذه امرأة عمران ولدت بنتاً فقالت: وإني سميتها مريم.

واختار الله لنبيه يحيى عليه السلام هذا الاسم قبل أن تنعقد نطفته في رحم أُمِّه. لأنَّ زكريا سأل ربه قال: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً﴾1 وأنت إذا أمعنت النظر في قوله تعالى: لم نجعل له من قبل سمي يتضح لك أنَّ تعيين أسماء أولياء الله يكون من عنده عز وجل، وأنَّ الله يتولى تسميتهم ولم يكلها إلى الأبويْن.

إذا عرفت هذا فهلمَّ معي إلى طائفة كبيرة من الأحاديث التي تذكر اسم السيدة فاطمة الزهراء ووجه التسمية، وأنها إنما سميت بفاطمة لأسباب ومناسبات، وليست هذه التسمية ارتجالية، ولا وليدة إعجاب واستحسان فقط، بل روعي فيها مناسبة الاسم مع المسمى، بل صدق الاسم على المسمَّى، وبهذه الأحاديث يتضح ما نقول.

قال الإمام الصادق عليه السلام: لفاطمة تسعة أسماء عند الله عز وجل: فاطمة والصدِّيقة والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية والمرضية، والمحدَّثة، والزهراء.. إلخ2.

فَاطمَة عليها السلام

1 – في العاشر من البحار عن الغمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: لما ولدت فاطمة عليها السلام أوحى الله عز وجل إلى ملك فأنطق به لسان محمد صلى الله عليه وآله فَسمَّاها فاطمة ثم قال: إني فطمتك بالعلم. وفطمتك عن الطمث ثم قال أبو جعفر عليه السلام:” والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم وعن الطمث بالميثاق“3.

2 – عن الإمامين: الرضا والجواد عليهما السلام قالا: سمعنا المأْمون يحدث عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جدِّه قال ابن عباس – لمعاوية -: أتدري لِمَ سُمِّيت فاطمة؟ قال: لا: قال: لأنها فطمت هي وشيعتها من النار سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقوله.

3 – عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله: يا فاطمة أتدرين لِمَ سُمِّيتِ فاطمة؟ قال علي عليه السلام: لم سميت؟ قال: لأنها فُطمت هي وشيعتها من النار.

4 – قال الإمام الصادق عليه السلام: أتدرون أيُّ شيء تفسير فاطمة؟ قلت: أخبرني يا سيدي قال: فطمت من الشر. ثم قال: لولا أن أمير المؤمنين تزوَّجها لما كان لها كفء إلى يوم القيامة على وجه الأرض، آدم فمن دونه.

وقد روي هذا الحديث من علماء العامة جماعة. منهم:

ابن شيرويه الديلمي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لو لم يخلق الله علياً لما كان لفاطمة كفء.

ورواه الخوارزمي في مقتل الحسين ص65.والترمذي في المناقب. والمناوي في كنوز الحقائق.

والقندوزي في ينابيع المودة عن أُم سلمة وعن العباس عمّ النبي صلى الله عليه وآله.

5 – وروى الخرگوشي في كتاب شرف النبي وابن بطة في كتاب الإبانة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: هل تدري لِمَ سمِّيت فاطمة؟ قال علي: لِم سمِّيت؟ قال: لأنَّها فُطمت هي وشيعتها من النار.

6 – عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: سمعت رسول الله يقول:” سمِّيت فاطمة لأن الله فطمها وذريتها من النار، من لقي الله منهم بالتوحيد والإيمان بما جئتُ به”4.

وقد روى الأحاديث جمع غفير من علماء العامة. منهم

1 – الخوارزمي في مقتل الحسين ص51 عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنما سمِّيت ابنتي فاطمة لأنَّ الله عز وجل فطمها وفطم من أحبَّها من النار.

2 – الطبري في ذخائر العقبى والقندوزي في ينابيع المودة والصفوري في نزهة المجالس عن علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا فاطمة أتدرين لم سُمِّيت فاطمة؟ قال علي: يا رسول الله لِم سُمِّيت فاطمة؟ قال: إنَّ الله عز وجل قد فطمها وذريَّتها من النار يوم القيامة.
ورواه القندوزي في ينابيع المودة ص194.

وكان هذا الاسم محبوباً عند أهل البيت عليهم السلام يحترمونه ويحترمون من سمِّيت به، وسأل الإمام الصادق عليه السلام أحد أصحابه – وقد رزقه الله بنتاً – بِم سمَّيتها قال الرجل: سميتها فاطمة. قال الإمام الصادق: فاطمة؟ سلام الله على فاطمة أما إن سميتها فاطمة فلا تلطمها ولا تشتمها وأكرمها.

وفي الوسائل ج7 عن السكوني قال: دخلت على أبي عبد الله – الصادق – عليه السلام وأنا مغموم مكروب قال لي: يا سكوني ما غمك؟ فقلت: ولدت لي ابنة.. فقال: ما سمَّيتها قلت: فاطمة قال: آه آه آه ثم قال: أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبها ولا تلعنها ولا تضربها.

وفي سفينة البحار عن أبي الحسن الكاظم قال: لا يدخل الفقر بيتاً فيه اسم محمد.. وفاطمة من النساء.

إن الحديث الأول الذي مرّ في تسميتها عليها السلام بفاطمة، عن الإمام الباقر عليه السلام قد ذيّله الإمام بقوله: “والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم وعن الطمث بالميثاق”.

إن المقصود من كلمة الميثاق هنا هو عالم الذر، ذلك العالم الذي أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾5 وملخص القول: إن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه كهيئة الذر، فعرضهم على آدم وقال: إني آخذ على ذريتك ميثاقهم أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئاً وعليَّ أرزاقهم، ثم قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا فقال للملائكة: اشهدوا فقالوا: شهدنا. وقيل إن الله تعالى جعلهم فهماء عقلاء يسمعون خطابه ويفهمونه ثم ردَّهم إلى صلب آدم، والناس محبوسون بأجمعهم حتى يخرج كل من أخرجه الله في ذلك الوقت، وكل من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأُولى، ومن كفر وجحد فقد تغيَّر عن الفطرة الأُولى.

وهذا القول مستخلص من طائفة كبيرة من الأحاديث والأخبار المعتبرة وهذا العالم يسمَّى عالم الذر ويسمى عالم الميثاق، والإمام الباقر عليه السلام يشير في كلامه إلى أن الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء كانت طاهرة من العادة الشهرية من ذلك العالم ومن ذلك الوقت.

وأما الأحاديث التي تتحدث عن عالم الذر فكثيرة جداً، ونكتفي هنا بذكر بعضها: في تفسير البرهان عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله: بأي شيء سبقت ولد آدم؟ قال: إنني أول من أقرَّ بربي، إن الله أخذ ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى. فكنت أول من أجاب.

عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: كيف أجابوا وهم ذر؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه؛ وزاد العياشي: يعني في الميثاق.

وعن زرارة أنه سئل من الإمام الباقر عليه السلام عن قول الله عز وجل: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم قال: من ظَهرِ آدم ذريتَه إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر، فعرَّفهم وأراهم صنعه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه.

ولما حج عمر بن الخطاب واستلم الحجر قال: أما والله إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أن رسول الله استلمك ما استلمتك فقال له علي: يا أبا حفص لا تفعل فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستلم إلاَّ لأمر قد علمه ولو قرأت القرآن فعلمت من تأْويله ما علم غيرك لعلمت أنه يضر وينفع، له عينان وشفتان ولسان ذلق يشهد لمن وافاه بالموافاة، فقال له عمر: فأوجدني ذلك في كتاب الله يا أبا الحسن فقال علي عليه السلام: قوله تبارك وتعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدن. فلما أقروا بالطاعة أنه الرب وأنهم العباد أخذ عليهم الميثاق بالحج إلى بيته الحرام، ثم خلق الله رقا أرقَّ من الماء وقال للقلم: أكتب موافاة خلقي ببيتي الحرام. فكتب القلم موافاة بني آدم في الرق ثم قيل للحجر: افتح فاك. ففتحه فألقم الرق. ثم قال للحجر: احفظه واشهد لعبادي بالموافاة. فهبط الحجر مطيعاً لله.

يا عمر أو ليس إذا استلمت الحجر قلت: أمانتي أدَّيتها، وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة؟ فقال عمر: اللهم نعم. فقال له علي: من ذاك.
وإنك تجد طائفة كبيرة من الأحاديث التي تتضمن البحث عن عالم الذر في كتاب الكافي للكليني والبحار للمجلسي وغيرها من موسوعات الأحاديث.
وقد التبس الأمر على بعض علمائنا. فلم يفهموا الآية فجعلوا يشككون في تلك الأحاديث سامحهم الله بالرغم من كثرتها بل بالرغم من صريح الآية.

وخلاصة الكلام أن عالم الذر هو عالم الميثاق، ومن ذلك العالم بل وقبل ذلك كانت الأفضلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين، ومن جملتهم ابن الطاهرة فاطمة الزهراء.

ولا يصعب عليك قبول هذا القول، فإن هناك أحاديث كثيرة رواها علماء الفريقين من الشيعة والسنة قد بلغت أو تجاوزت حدَّ التواتر وهي تؤيِّد هذا الموضوع أما الأحاديث المذكورة في كتب الشيعة فيعسر إحصاؤها وعدُّها، وأما في كتب السنة فقد روى الصفوري الشافعي في نزهة المجالس ج2 ص223 قال: قال الكسائي وغيره: لما خلق الله آدم.. إلى أن قال: وعليه جارية لها نور وشعاع، وعلى رأْسها تاج من الذهب، مرصَّع بالجواهر لم ير آدم أحسن منها. فقال: يا رب من هذه؟ قال: فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله فقال: يا رب من يكون بعلها؟ قال: يا جبرئيل افتح له باب قصر من الياقوت. ففتح له، فرأى فيه قبَّةً من الكافور، فيها سرير من ذهب، عليه شاب حسنه كحسن يوسف فقال: هذا بعلها علي بن أبي طالب.. الحديث.

وروى العسقلاني في لسان الميزان ج3 ص346:عن الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله: لما خلق الله آدم وحوَّاء تبخترا في الجنة وقالا: من أحسن منَّا؟ فبينما هما كذلك. إذ هما بصورة جارية لم ير مثلها، لها نور شعشعاني يكاد يطفئ الأبصار. قالا: يا رب ما هذه؟ قال: صورة فاطمة سيدة نساء ولدك قال: ما هذا التاج على رأسها قال: علي بعلها. قال فما القرطان قال: ابناها، وجد ذلك في غامض علمي قبل أن أخلقك بألفي عام.

الصِّدِّيقة

لقد مرَّ عليك أن من جملة أسمائها عليها السلام الصدِّيقة، بكسر الصاد والدال المشدّدة صيغة المبالغة في التصديق أي الكثيرة الصدق.

والصِدِّيق أبلغ من الصدوق، وقيل: الصدِّيق: من كثر منه الصدق. وقيل: بل مَن لم يكذب قط. وقيل: الكامل في الصدق، الذي يصدِّق قوله بالعمل، البار، الدائم التصديق وقيل: مَن لم يتأت منه الكذب لتعوِّده الصدق. وقيل: مَن صدق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بفعله. كذا في تاج العروس.

وقيل: المداوم على التصديق بما يوجبه الحق، وقيل: الذي عادته الصدق. وقيل: إنه المصدِّق بكل ما أمر الله به وبأنبيائه، لا يدخله في ذلك شك، ويؤيده قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ﴾ سورة الحديد، الآية: 19.

هذه تعاريف في معنى الصدِّيق، ولكن المستفاد من الآيات الكثيرة والروايات المتعددة أن مرتبة الصدِّيقين في عداد مراتب الأنبياء والشهداء لهم حساب خاص بهم ودرجة مخصوصة بهم. استمع إلى هذه الآيات ليظهر لك ما قلنا:

﴿ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ سورة النساء، الآية: 69.

﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا﴾ سورة مريم، الآية: 41.

﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ﴾ سورة مريم، الآية: 56.

﴿ وما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدِّيقة﴾ سورة المائدة، الآية: 75.

وفي تفسير قوله تعالى: وأُمَّه صدِّيقة قيل: سميَّت صدِّيقة لأنها تصدِّق بآيات ربها، ومنزلة ولدها وتصدِّقه فيما أخبرها به، بدلالة قوله تعالى: وصدَّقت بكلمات ربه وقيل: لكثرة صدقها، وعظم منزلتها فيما تصدق به من أمرها.

بعد استعراض هذه الآيات والأقوال يمكن لنا أن نستفيد أن التصديق بالله وبالأنبياء والكتب السماوية والأحكام الشرعية تارة يكون باللسان دون العمل.

ففي الوقت الذي يصدّق الإنسان بأن الله تعالى يراه مع ذلك يعصي الله عز وجل ويعلم بأن الله تعالى قد أوجب عليه حقوقاً مالية أو غير مالية مع ذلك لا يؤدي تلك الحقوق ويعلم بأن الله حرَّم الخمر والربا والزنا ومع ذلك لا يرتدع عن تلك المعاصي فهو مصدّق بالله وبالحلال والحرام، والثواب والعقاب، والجنة والنار، ولكن عمله لا يطابق هذا التصديق، أي لم يبلغ به التصديق درجة المطابقة بين القول والفعل أو بين الاعتقاد والعمل.

ولكنّ الصدِّيقين هم الذين يعتقدون الحق ويؤمنون به، ويعملون على ضوء تلك المعتقدات، وهؤلاء عددهم قليل ونادر في كل زمان وفي كل مكان.

وأنت إذا قارنت بين هذه التعاريف وبين أعمال الناس يظهر لك بكل وضوح أن عدد الصدِّيقين قليل جداً جداً، ولعل في بعض البلاد لا يوجد صدّيق واحد.

وبعد هذا كله سوف يسهل عليك أن تعرف أن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قد بلغت مرتبة الصدِّيقين، وسمَّاها رسول الله صلى الله عليه وآله بالصدِّيقة. كما في الرياض النضرة ج2 ص202 وفي شرف النبوة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي: أتيتَ ثلاثاً لم يؤتَهن أحد ولا أنا:

ولم أُوت أنا مثلي.
ولم أُوت أنا مثلها زوجة.
ولم أُوتَ من صلبي مثلهما.

أُتيتَ صهراً مثلي
وأُتيتَ زوجة صدِّيقة مثل ابنتي
وأُوتيتَ الحسن والحسين من صلبك
ولكنكم مني وأنا منكم.

وسأل المفضل بن عمرو عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قلت: من غسَّل فاطمة؟ قال: ذاك أمير المؤمنين فكأنني استعظمت ذلك من قوله، فقال كأنك ضقتَ بما أخبرتك به؟ فقلت: قد كان ذلك جعلت فداك!

قال: لا تضيقنَّ، فإنها صدِّيقة، ولم يغسِّلها إلا صدِّيق، أما علمت أن مريم لم يغسِّلها إلا عيسى.

المُبَارَكَة

البركة: النماء والسعادة والزيادة كما في تاج العروس وقال الراغب: ولما كان الخير الإِلهي يصدر من حيث لا يحبس، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل – لكل ما يشاهَد منه زيادة محسوسة -: هو مبارك فيه، وفيه بركة.

ولقد بارك الله في السيدة فاطمة أنواعاً من البركات وجعل ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله من نسلها، وجعل الخير الكثير في ذريَّتها، فإنها ماتت وتركت ولدين وابنتين فقط، وهم: الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام وزينب وأُم كلثوم، وجاءت واقعة كربلاء، وقتل فيها أولاد الحسين ولم يبق من أولاده إلاَّ علي بن الحسين زين العابدين.

وقتل من أولاد الإمام الحسن سبعة على قول واثنان من ولد زينب، وأما أُم كلثوم فإنها لم تعقب.

وبعد واقعة كربلاء تكررت الحوادث، وأُقيمت المذابح والمجازر في نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وذرية فاطمة الزهراء من واقعة الحرَّة، إلى واقعة زيد بن علي بن الحسين إلى واقعة الفخ إلى مطاردة العلويين في عهد الأُمويين.

وجاء دَور بني العباس، فضربوا الرقم القياسي في مكافحة العلويين وإبادتهم واستئصال شأْفتهم، راجع كتاب مقاتل الطالبيين تجد بعض تلك الحوادث.

واستمرت المكافحة أكثر من قرنين حتى قتل الإمام الحسن العسكري عليه السلام وهو الإمام الحادي عشر مسموماً في مدينة سامراء، ولم يكن صلاح الدين الأيوبي بأقل من العباسيين في إراقة دماء آل رسول الله ودماء شيعتهم، فلقد أقاموا في المغرب العربي مجازر ومذابح جماعية تقشعر منها الجلود.

ومع ذلك كله فقد جعل الله البركة في نسل فاطمة الزهراء، وقد جعل الله منها الخير الكثير.

وفي تفسير قوله تعالى: إنا أعطيناك الكوثر أقوال للمفسرين، وإن كان المشهور أن الكوثر هو الحوض المعروف في القيامة، أو النهر المشهور في الجنة ولكن الكوثر على وزن فوعل – هو الشيء الكثير والخير الكثير.

وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور في تفسير شرح الكوثر: وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم عن طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير فإنّ ناساً يزعمون أنَّه نهر في الجنة. قال: النهر الذي في الجنة هو من الخير الكثير الذي أعطاه.

والأنسب بالمقام. وبمقتضى الحال – كما في التفسير للرازي – أن يكون المقصود من الكوثر هي الصدّيقة فاطمة الزهراء، فقد ذكر الطبرسي في مجمع البيان في تفسير سورة الكوثر: قال: قيل: الكوثر هو الخير الكثير، وقيل: هو كثرة النسل والذرية، وقد ظهرت الكثرة في نسله – رسول الله صلّى الله عليه وآله – من وُلد فاطمة حتى لا يحصى عددهم، واتصل إلى يوم القيامة مددهم.

وقال الفخر الرازي في تفسيره حول الآية:والقول الثالث: الكوثر أولاده، قالوا: لأن هذه السورة إنما نزلت ردَّاً علة من عابه عليه السلام بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مرِّ الزمان فانظر كم قُتل من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أُمية في الدنيا أحد يعبأُ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم.

ووجه المناسبة: أن الكافر شمت بالنبي حين مات أحد أولاده وقال: إن محمداً أبتر، فإن مات، مات ذكره. فأنزل الله هذه السورة على نبيه تسلية له كأنه تعالى يقول: إن كان ابنك قد مات فإنا أعطيناك فاطمة، وهي وإن كانت واحدة وقليلة، ولكن الله سيجعل هذا الواحد كثيراً.

وتصديقاً لهذا الكلام ترى في العالم اليوم ذرية فاطمة الزهراء الذين هم ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله منتشرين في بقاع العالم، ففي العراق حوالي مليون وفي إيران حوالي ثلاثة ملايين، وفي مصر خمسة ملايين وفي الجزائر وفي تونس وليبيا عدد كثير، وكذلك في الأردن وسوريا ولبنان، والسودان وبلاد الخليج والسعودية ملايين، وفي اليمن والهند وباكستان والأفغان وجزر إندونيسيا حوالي عشرين مليوناً.

وقلَّ أن تجد في البلاد الإسلامية بلدة ليس فيها أحد من نسل السيدة فاطمة الزهراء. ويقدَّر مجموعهم بخمسة وثلاثين مليوناً، ولو أجريت إحصائيات دقيقة وصحيحة فلعل العدد يتجاوز هذا المقدار.

هؤلاء ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وهم من صلب علي وفاطمة وفيهم الملوك والأمراء والوزراء والعلماء والكتَّاب والشخصيات البارزة والعباقرة المرموقة.

ومنهم مَن يعتزُّ بهذا الانتساب ويفتخر به، ومنهم مَن يهمله ولا يبالي به، ومنهم مَن يسير على طريقة أهل البيت، ومنهم مَن يسير على خلاف مذهب أهل البيت.

وقد سمعت أنَّ بعض العلويين في إندونيسيا خوارج ونواصب!!

ومن أعجب العجب أن بعض المسلمين ما كان يعجبهم أن يعترفوا بهذا الانتساب أي انتساب ذرية علي وفاطمة على رسول الله صلى الله عليه وآله بل يعتبرون هذا الاعتراف كذباً وافتراءً، ويحاربون هذه الفكرة محاربة شعواء لا هوادة فيها، وكانوا يسفكون الدماء البريئة لأجل هذه الحقيقة.

انظر إلى موقف الحَجاج السفَّاك الهتَّاك تجاه هذا الأمر، وهكذا المنصور الدوانيقي، وهارون الرشيد وغيرهم ممن حذا حذوهم وسلك طريقتهم.

وفي العاشر من البحار: عن عامر الشعبي أنه قال: بعث إليَّ الحجاج ذات ليلة فخشيت فقمت فتوضأْت وأوصيت، ثم دخلت عليه، فنظرت فإذا نطع منشور والسيف مسلول، فسلَّمت عليه فردَّ عليَّ السلام فقال: لا تخف فقد أمنتك الليلة وغداُ إلى الظهر، وأجلسني عنده ثم أشار فأُتي برجل مقيَّد بالكبول والأغلال، فوضعوه بين يديه فقال: إن هذا الشيخ يقول: إنَّ الحسن والحسين كانان ابني رسول الله، ليأْتيني بحجة من القرآن وإلاَّ لأضربنَّ عنقه.

فقلت: يجب أن تحلَّ قيده، فإنَّه إذا احتج فإنَّه لا محالة يذهب وإن لم يحتج فإنَّ السيف لا يقطع هذا الحديد.

فحلّوا قيوده وكبوله، فنظرت فإذا هو سعيد بن جبير، فحزنت بذلك، وقلت: كيف يجد حُجَّةً على ذلك من القرآن؟ فقال الحجاج: ائتني بحجة من القرآن على ما ادعيت وإلاَّ أضرب عنقك.

فقال له: انتظر. فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك. فقال: انتظر. فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال: ووهبنا له إسحاق ويعقوب.. إلى قوله: وكذلك نجزي المحسنين ثم سكت وقال للحجاج: اقرأْ ما بعده. فقرأ: وزكريا ويحيى وعيسى فقال سعيد: كيف يليق هاهنا عيسى؟ قال: إنَّه كان من ذريته قال: إن كان عيسى من ذرية إبراهيم ولم يكن له أب بل كان ابن ابنته فنسب إليه مع بُعده فالحسن والحسين أولى أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مع قربهما منه.

فأمر له بعشرة آلاف دينار، وأمر أن يحملوه إلى داره وأذن له في الرجوع قال الشعبي: فلما أصبحت قلت في نفسي: قد وجب عليَّ أن آتي هذا الشيخ فأتعلَّم منه معاني القرآن، لأني كنت أظن أني أعرفها، فإذا أنا لا أعرفها. فأتيته فإذا هو في المسجد، وتلك الدنانير بين يديه، يفرِّقها عشراً عشراً، ويتصدق بها ثم قال: هذا كله ببركة الحسن والحسين عليهما السلام لئن أغممنا واحداً لقد أفرحنا ألفاً وأرضينا الله ورسوله صلى الله عليه وآله.

أقول: الآيات التي استدل بها سعيد بن جبير رضوان الله عليه هي: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ سورة الأنعام؛ الآية: 84.

وهاك حديثاً آخر يكشف لك مدى العناد واللجاج والإلحاح على نفي هذه الفضيلة وتزييفها من الجانب المناوئ.

روى شيخنا المجلسي في البحار عن الاحتجاج وتفسير علي بن إبراهيم عن أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال لي أبو جعفر: يا أبا الجارود ما يقولون في الحسن والحسين عليهما السلام؟ قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله قال: فبأي شيء احتججتم عليهم؟

قلت: يقول الله عز وجل في عيسى ابن مريم: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ وجعل عيسى من ذرية إبراهيم.

قال: فأي شيء قالوا لكم؟

قلت: قالوا: قد يكون ولد الابنة من الوالد ولا يكون من الصلب.

قال: فبأي شيء احتججتم عليهم؟

قال: قلت: احتججنا عليهم بقول الله تعالى: قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم.

قال: فأي شيء قالوا لكم؟

قلت: قالوا: قد يكون في كلام العرب ابني رجل واحد فيقول: أبناءنا. وإنما هما ابن واحد.

قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: والله يا أبا الجارود لأعطينَّكها من كتاب الله آية تسمّى لصلب رسول الله صلى الله عليه وآله لا يردّها إلاَّ كافر.

قال: قلت: جعلت فداك وأين؟

قال: حيث قال الله: حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى أن تنتهي إلى قوله: وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم فسلهم يا أبا الجارود هل حلَّ لرسول الله صلى الله عليه وآله نكاح حليلتيهما؟ أي زوجة الحسن والحسين.

فإن قالوا: نعم، فكذبوا والله وفجروا، وإن قالوا: لا. فهما والله ابناه لصلبه، وما حرمتا عليه إلاّ للصلب.

ولقد جرى حوار بين هارون الرشيد والإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ذكره شيخنا المجلسي في البحار نقلاً عن عيون أخبار الرضا عليه السلام أن هارون الرشيد قال للإمام موسى بن جعفر عليه السلام:

لِمَ جوَّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ويقولون لكم يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء والنبي صلى الله عليه وآله جدّكم من قِبَل أُمِّكم؟؟

فقال الإمام: لو أنّ النبي نشر أي بعث حي فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟

قال الرشيد: سبحان الله! ولِمَ لا أجيبهُ؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.

فقال الإمام: ولكنه صلى الله عليه وآله لا يخطب إليَّ ولا أزوِّجه.

قال الرشيد: ولِمَ؟

قال الإمام: لأني ولدني ولم يلدك.

قال الرشيد: أحسنت يا موسى.

ثم قال الرشيد: كيف قلتم إنا ذرية النبي، والنبي صلى الله عليه وآله لم يعقّب؟ وإنما العقب للذكر، لا للأنثى، وأنتم ولد الابنة، ولا يكون لها عقب؟

فاعتذر الإمام عن الإجابة على هذا السؤال المحرج وطلب من الرشيد إعفاءه عن الجواب رعاية للتقية. فقال الرشيد: لا، أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم، كذا أنهي إلي ولست أَعفيك في كل ما أسألك حتى تأْتيني فيه بحجة من كتاب الله، فأنتم تدَّعون – معشر وُلد علي – أنَّه لا يسقط عنكم منه شيء ألِفٌ ولا واو إلاَّ وتأْويله عندكم، واحتججتم بقوله عز وجل: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقال الإمام: تأذن لي في الجواب؟

قال الرشيد: هات.

قال الإمام: أعود بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى، مَن أبو عيسى؟

قال الرشيد: ليس لعيسى أب.

قال الإمام: إنما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم السلام من طريق مريم عليها السلام وكذلك ألحقنا بذراري النبي صلى الله عليه وآله من قَبِل أمِّنا فاطمة عليها السلام.. إلى آخر الحديث.

هذه هي الآيات التي استدل بها الأئمة عليهم السلام حول انتسابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله عن طريق السيدة فاطمة الزهراء، وأما الأحاديث التي تصرّح بهذا المعنى فكثيرة جداً، ونكتفي هنا بما يلي:

1 – الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج1ص316.

عن ابن عباس قال: كنت أنا وأبي: العباس بن عبد المطلب جالسين عند رسول الله صلى الله عليه وآله إذ دخل علي بن أبي طالب فسلّم، فردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وبشّ به، فقال العباس: يا رسول الله أتحبّ هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: يا عمَّ رسول الله! واللهِ اللهُ أشدُّ حُبَّاً له مني، إنَّ الله جعل ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريتي في صلب هذا.

ورواه الخوارزمي في المناقب ص229.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إنَّ الله عز وجل جعل ذرية كل نبي في صلبه وجعل ذريتي في صلب علي.

ورواه محب الدين الطبري في ذخائر العقبى.

والحمويني في فرائد السمطين.

والذهبي في ميزان الاعتدال.

وابن حجر في الصواعق المحرقة ص74.

والمتقي الهندي في منتخب كنز العمال.

والزرقاني في شرح المواهب اللدنية.

والقندوزي في ينابيع المودة ص183.

وذكر النسائي في كتاب خصائص أمير المؤمنين عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك.

وروى أيضاً عن أسامة قال: طرقت باب رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة لبعض الحاجة، فخرج وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو؟ فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشفه فإذا هو الحسن والحسين على وركيه، فقال: هذان ابناي، وابنا بنتي، اللهم إنك تعلم أني أحبُّهما فأحبهما.

والأحاديث التي تصرح بأن الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول الله صلى الله عليه وآله كثيرة جداً، وجاء بعض الجهلاء يتفلسف ليُنكر أبوّة رسول الله صلى الله عليه وآله لولديه: الحسن والحسين عليهما السلام مستدلاً بقوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم. فيزعم الجاهل أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله ليس بأب أحد، مع العلم أن الآية نزلت حول نفي نسب زيد الذي تبنَّاه رسول الله صلى الله عليه وآله ثم زوَّجه زينب بنت جحش ثمّ طلّقها زيد وتزوجها النبي “فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً”6 ففي هذا بيان أن رسول الله صلى الله عليه وآله ليس بأب لزيد حتى تحرم عليه زوجته، فإن تحريم زوجة الابن معلق بثبوت النسب، فمن لا نسب له لا حرمة لامرأته، ولهذا أشار إليهم فقال: من رجالكم وقد ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله أولاد ذكور إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر، فكان صلى الله عليه وآله أباهم، وقد صح وثبت أنه صلى الله عليه وآله قال للحسن عليه السلام: إن ابني هذا سيد. وقال أيضاً: إن كل بني بنت ينسبون إلى أبيهم إلاَّ أولاد فاطمة فإني أنا أبوهم.

وقيل: أراد بقوله: من رجالكم البالغين من رجال ذلك الوقت ولم يكن أحد من أبنائه رجلاً في ذلك الوقت.

وختاماً لهذا الفصل: كل ما تقوله في أبوَّة رسول الله لأولاده الذكور فهو الثابت في أبوَّة رسول الله لولديه الحسن والحسين، والكلام هناك نفس الكلام هنا.

الطّاهِرَة

لقد مرّ عليك أن من جملة أسمائها عليها السلام هي الطاهرة، وأحسن ما نبحث فيه حول هذا الموضوع هي آية التطهير، وهي قوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير. إن هذه الآية الكريمة تعتبر في طليعة الآيات ذات الأهمية الكبرى، وذلك لعظم معناها ومغزاها، لأنها منبع فضائل أهل البيت النبوي لاشتمالها على أمور عظيمة وقد كثرت الأقوال، وجالت الأقلام حول هذه الآية.

ولعل من الصحيح أن نقول: إن آية التطهير معترك الآراء المتضاربة والأقوال المختلفة، وخاصة حول كلمة: أهل البيت والمقصود منهم، ومدى شمول هذه الكلمة.

والأمر الذي لا شك فيه أن آية التطهير تشمل الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام قطعاً، وبإجماع المفسرين والمحدِّثين من الشيعة والسنَّة، إلاَّ من شدَّ وندر.

إذ أن جميع الأحاديث الواردة حول نزول هذه الآية متفقة على شمولها لعليٍ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بالقدر المتيقن.

وإن كان هناك قول يشعر بشمولها لزوجات النبي صلى الله عليه وآله اعتماداً على ظاهر لفظ أهل البيت أو سياق الآية التي سبقتها ولحقتها خطابات لزوجات النبي، فإن جميع الأحاديث تصرّح بأن النبي لم يسمح حتى لزوجته السيدة أم سلمة أن تدخل تحت الكساء قبل نزول آية التطهير.

وقد ذكرنا الشيء اليسير – مما يتعلق بالآية – في كتاب علي من المهد إلى اللحد ونذكر هنا بعض الأحاديث ومصادرها من كتب علماء السُّنة، رعاية لأسلوب الكتاب وتتميماً للفائدة، وينبغي أن نعلم أن الذين رووا نزول أية التطهير في حق علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام يعسر إحصاؤهم، ولعلهم يتجاوزون المئات.

ولو أردنا استعراض أقوال المفسرين والمحدثين حول الآية لطال بنا الكلام، وخرج الكتاب عن أسلوبه، ولكننا نذكر هنا عشرين مصدراً من مشاهير مؤلفات علماء العامة وحفّاظهم ومفسريهم ومحدّثيهم، وفي ذلك كفاية لكل منصف:

1 – الخطيب البغدادي

في تاريخه ج10 بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله في قوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله علياً وفاطمة والحسن والحسين، ثم أدار عليهم الكساء فقال: هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأم سلمة على الباب فقالت: يا رسول الله ألست منهم؟ فقال: إنك لعلى خير أو: إلى خير.

2 – الزمخشري في تفسيره الكشاف ج1 ص193.

روى عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج وعليه مرط مرجَّل من شعر أسود موشى منقوش، فجاء الحسن بن علي فأدخله. ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءَت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير.

3 – الإمام الرازي في تفسيره ج2 ص700 طبع الأستانة.

روى أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال: إنما يريد الله..الخ.

4 – ابن الأثير الجزري في كتابه:

أسد الغابة في معرفة الصحابة ج2 ص12: عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وآله قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله: إنما يريد الله.. في بيت أم سلمة فدعا النبي صلى الله عليه وآله فاطمة وحسناً وحسيناً فجللّهم بكساءٍ وعليّ خلف ظهره ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: أنتِ على مكانك، أنت في خير.

5 – سبط ابن الجوزي في تذكرة الأئمة

ص244 عن واثلة بن الأسقع قال: أتيت فاطمة عليها السلام أسألها عن علي فقالت: توجَّهَ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله. فجلست أنتظره فإذا برسول الله قد أقبل ومعه علي والحسن والحسين، قد أخذ بيد كل واحدٍ منهم حتى دخل الحجرة فأجلس الحسن على فخذه اليمنى، والحسين على فخذه اليسرى، وأجلس علياً وفاطمة بين يديه ثم لفَّ عليهم كساه أو ثوبه ثم قرأ: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت.. ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي حقاً.

6 – الإمام الواحدي في كتابه:

أسباب النزول بسنده إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله ذكرت أن رسول الله كان في بيتها، فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه فقال لها: ادعي لي زوجك وابنيك، قال: فجاء علي الحسن والحسين فدخلوا، فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة، وهو على دكان7. وتحته كساء خيبري قالت: وأنا في الحجرة أصلّي، فأنزل الله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير؛ قال: فأخذ فضلَ الكساء فغشّاهم به، ثم أخرج يديه فأَلوى بهما إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: أنا معكم يا رسول الله؟ قال: آئل إلى خير، آئل إلى خير.

ونقل الترمذي في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان من وقت نزول هذه الآية إلى قريب ستة أشهر إذا خرج إلى الصلاة يمر بباب فاطمة يقول: الصلاة أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس.. الخ.

7 – ابن الصباغ المالكي في كتابه:

الفصول المهمة ص7 يروي عن الواحدي قريباً من الحديث الذي مرّ، وذيّله بقوله: وقال بعضهم في ذلك شعراً:

وابنــــــته البــــــتـول الطــاهـــرة

أرجو السلامة والنجاة في الآخرة

إن النبـــــــي ووصــــيّه وابنــيه

أهل العـــــباء فإنــــني بولائهــم

8 – أبو بكر السيوطي في كتابه:

الدر المنثور ج5 ص198 والخصائص الكبرى ج2 ص 264 والإتقان ج2 ص200 روى هذا الحديث بطرق كثيرة، متعددة الأسانيد تنتهي أسانيدها إلى كل من أم سلمة وعائشة وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم وابن عباس، والضحاك بن مزاحم، وأبي الحمراء وعمر بن أبي سلمة وغيرهم:

إن النبي صلى الله عليه وآله دعا فاطمة وعلياً وحسناً وحسيناً. لمّا نزلت: إنما يريد الله، فجلّلهم بكساء وقال: والله هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

9 – الطبري في ذخائر العقبى ص21:

روى عن عمر بن أبي سلمة نزول الآية في الخمسة الطيبة، وروى عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخذ ثوباً وجلّله فاطمة وعلي والحسن والحسين وهو معهم، وقرأ هذه الآية:﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ً﴾. قالت: فجئت أدخل معهم فقال: مكانك إنك على خير.

وعنها أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لفاطمة: ائتي بزوجك وابنيك. فجاءت بهم وأَكفأ عليهم كساء فدكياً، ثم وضع يده عليهم، ثم قال: اللهم هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد إنك حميد مجيد. قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: إنك على خير.

10 – محمد بن أحمد القرطبي في كتابه:

الجامع لأحكام القرآن ج14 ص182 روى نزول الآية في حق أهل البيت عليهم السلام.

11 – ابن العربي في كتابه: أحكام القرآن ج2 ص166.

12 – ابن عبد البر الأندلسي في كتابه: الاستيعاب ج2 ص460.

13 – البيهقي في كتابه: السنن الكبرى ج2 ص149.

14 – الحاكم النيسابوري في كتابه: المستدرك على الصحيحين ج2 ص416 روى عن أم سلمة قريباً ممّا تقدَّم.. إلى أن قالت: فقال صلى الله عليه وآله: اللهم هؤلاء أهل بيتي قالت أم سلمة: يا رسول الله ما أنا من أهل البيت؟ قال: إنك أهلي إلى خير، وهؤلاء أهل بيتي.. الخ.

15 – الإمام أحمد بن حنبل في مسند ج1 ص 331.

16 – النسائي في كتابه: الخصائص ص4.

17 – محمد بن جرير الطبري في تفسيره ج22 ص5.

18 – الخوارزمي في: كتاب المناقب ص35.

19 – الهيثمي في: مجمع الزوائد 9 ص166.

20 – ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ص 85.

انتخبنا هذا العدد وهذه العدة من جماعة كثيرة من المفسرين والمحدّثين، ولولا الخوف من الملل لأسهبنا في ذكر المصادر، وفي هذا المقدار تبصرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

لا أراني بحاجة إلى المزيد من التحدّث حول الموضوع بعد شهادة آية التطهير التي يستفاد منها أن الزهراء طاهرة – بجميع معنى الكلمة – وستأتيك الأحاديث الكثيرة حول كونها بتولاً ورعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة اسمها الطاهرة نذكر ما تيسّر:

لقد طهرّها الله عن العادة الشهرية، وعن كل دنس ورجس، وعن كل رذيلة، والرجس: كل أمر تستقذره الطباع، ويأمر به الشيطان، ويحق لأجله العذاب، ويشين السمعة وتقترف به الآثام، وتمجّه الفطرة، وتسقط به المروءة.

وذكر ابن العربي في الفتوحات المكية باب 29 إن الرجس فيها عبارة عن كل ما يشين الإنسان وهذا معنى العصمة التي تعتقد به الشيعة في الأنبياء والأئمة والسيدة فاطمة الزهراء، وهي مرتبة عظيمة، ومنزلة سامية خصّ بها بعض عباده.

وليس من لوازم العصمة تبليغ الأحكام، فإن كانت العصمة لازمة للنبي والإمام لقيامهما بأعباء التبليغ فليس معنى ذلك أن غيرهما لا يتصف بالعصمة.

وقد احتج الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على عصمة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام بآية التطهير، في حوار جرى بينه وبين أبي بكر، نذكر بعضه شاهداً لما نحن فيه:

قال علي عليه السلام لأبي بكر: يا أبا بكر أتقرأ كتاب الله؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ً﴾. فيمن نزلت؟ فينا أو في غيرنا؟ قال: بل فيكم. قال: فلو أن شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله بفاحشة ما كنت صانعاً؟ قال: كنت أقيم عليها الحدَّ كما أقيم على نساء المسلمين!! قال: كنت إذن عند الله من الكافرين. قال: ولِم؟ قال لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة، وقبلت شهادة الناس عليها.. الخ8.

ومن لوازم هذه الطهارة عدم التنجس بالموت مع العلم أن كل إنسان مهما بلغ في التقوى والعبادة إذا مات نجس جسمه نجاسة مشدّدة، بحيث يجب الغسل على مَن مسَّ ذلك الميت بعد برده، ولا يطهر الميت إلا بالتغسيل، ولكن المعصومين كانوا مطهرين في حياتهم وبعد موتهم، ففي الوسائل عن الحسن بن عبيد قال: كتبت إلى الصادق عليه السلام: هل اغتسل أمير المؤمنين حين غسَّل رسول الله صلى الله عليه وآله عند موته؟ فأجاب: النبي طاهر مطهَّر، ولكن فعل أمير المؤمنين وجرت به السُنة.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل