لم يكن اسمه متداولاً إعلاميّاً على الأقلّ قبيل الأزمة في سوريا. إلّا أنّ وجود الرجل على جبهات الجهاد الأماميّة والإماميّة في غير ساحة، وظهوره في حلب وتكريت والموصل، سلّط الضوء عليه. الأمر الذي جعل قادة العدوّ الصهيو-أميركي يسارعون إلى وضعه في أعلى قائمة الإرهاب ويصفونه بأنّه أسد المعارك. غير أنّ أكثر ما يهابونه هو غياب أدنى معرفة بالرجل، فـ(جون ماغواير) الضابط السابق في وكالة الاستخبارات يقول عنه: “إنّه أقوى مسؤول سريّ في الشرق الأوسط، ولا أحد يعرفه”(1). والصحف الإسرائيليّة وصفته بأنه أخطر رجل في الشرق الأوسط. في كتاب: “قاسم سليماني، ذكريات وخواطر”، تحدّث ذلك الرجل الأخطر بحديث خاص، عن أبطال يأتون بالحياة حينما يرحلون عنها، لأجلهم فقط نَبَسَ ببضعة أحرف. فماذا قال وهو يروي من خلالهم تاريخ جهاد مقدّس؟
* الجنرال اللغز
تلك السريّة تكاد تتخفّى حينما تتأمّل ملامح الجنرال، فتقاسيم وجهه وابتسامته التي تختزن الصلابة، تُنبئان بمسيرة جهاد طويلة، ونظراته الثاقبة تُخبر عن سنوات قضاها الرجل على الجبهات، تلك التي لم تغِب عن ذكرياته وخواطره. إلاّ أنّ أبواب الجبهات تلك لا يفتحها إلاّ أسماء الشهداء، عندها ترى عينيّ الحاج سليماني تفيضان دمعاً وتسمع صوته يتهدّج عاطفةً. فأولئك الأبطال الذين يكتبون فصول حياتنا، لم يكن بحال أن تذكر الانتصارات بغير حروف أسمائهم التي تزهر باللون الأحمر.
* استنطاق الذكريات
لا تغيب ذكريات الدفاع المقدس عن بال الحاج سليماني، فتلك المشاهد المليئة بالكنوز العرفانيّة تشكّل أعمدة تجربته الميدانيّة. حيث يقدّم كتاب “قاسم سليماني، ذكريات وخواطر” بعضاً من تلك الكنوز، يذكر خلالها الأسماء الأعلام للشهداء الذين أثاروا دهشته لشدّة إيمانهم وصلابتهم على الجبهات. أعدّ هذا الكتاب علي أكبر مزدآبادي، وعرّبه مركز المعارف للترجمة. وهو عبارة عن ذكريات متفرقة للحاج سليماني خلال سنوات الدفاع المقدس؛ بالإضافة إلى بعض الكلمات التي ألقاها الحاج في ذكرى هؤلاء الشهداء حيث يُستبان بشكل جليّ الجانب العاطفي من شخصيّته. فيما يلي قراءة في ذكريات هذه القامة الجهاديّة الكبيرة.
* الاسم والهوية
هو الحاج قاسم سليماني قائد فيلق “القدس”(2)، القوّة المسؤولة بشكل رئيس عن دعم حركات المقاومة في المنطقة. وُلد في قرية “قنات ملك” في ضواحي كرمان(3)، حائز على شهادة البكالوريا، متزوّج ولديه عدّة أولاد. عام 1980م، بعد انتصار الثورة، التحق بالحرس الثوريّ الإيرانيّ الذي وصفه بأنّه (معراج الشهداء)(4) وأحد الأعمدة الرئيسة التي حفظت الجمهوريّة الإسلاميّة.
كانت بداية العمل العسكري إبان الحرب الصدّاميّة المفروضة على إيران. شارك في العديد من العمليات(5) خلال الحرب قبل أن يشكّل لواء (ثار الله 41)، وهو اللّواء الذي ساهم بقوّة في تغيير مسار الحرب المفروضة. كانت مدّة المهمة التي أُرسل لها لا تتجاوز الخمسة عشر يوماً، إلّا أنّه لم يعد إلّا بعد أن وضعت الحرب أوزارها. يُعرف عنه أنّه ذو الرأي الصائب والنظرة الثاقبة، يهتمّ بكل التفاصيل، ولا سيّما إذا تعلّق الأمر بحياة مقاتليه. وهو الذي يعضّ على جراحاته في ساحة المعركة لئلّا تضعف معنويات الشباب(6).
* ملامح الشخصيّة
لا يمكن الحديث بإطناب عن هذه الشخصية الجهاديّة، وهو المعروف بأنّه قليل الكلام كثير الصمت، صاحب الحضور المهيب. غير أن كلماته المقتضبة في حقّ رفاق دربه تُخبر بالكثير عن ملامح شخصيّته. ولعلّ أبرز الصفات التي يُمكن الحديث عنها هي التواضع. وهو الذي وصف نفسه في إحدى الكلمات بأنّه أصغر المقاتلين، “أنا العبد كقائد عسكريّ صغيركم وبحسب الظاهر قائدكم”(7)، يتمنّى أن تكون الشهادة خاتمة حياته الجهادية.
يُكثر الجنرال الحديث عن المجاهدين وتضحياتهم، وترى طيفه حاضراً دوماً في الميدان وفي أخطر النقاط. ولطالما عاتبه المحبّون على تقدّمه إلى النقاط الأماميّة خوفاً عليه، إلّا أنّه يكتفي بابتسامة الشجاع الحكيم.
الألقاب التي تلاحقه كثيرة، الجنرال، اللواء، نجم النجوم، الأسطورة، الحَجِّي… إنّه بكلّ بساطة مفاجأة الجبهات، كما يُقال عنه. على أنّ الرجل كارهٌ للألقاب، فحتّى لقب “حاج” لم يكن متداولاً على الجبهات(8).
* خلاصة التجربة
إنّ تجربة حياة الجهاد هي تجربة مُدهشة مليئة بالدروس، يقول سليماني(9): “فالتجارب الشخصيّة أعلى قيمة واعتباراً من كلّ الاستعدادات المُسبقة. وعندما يكون الواقع الميدانيّ صعباً ومعقّداً، فإنّ أيّ تدبيرٍ عسكريٍّ، مهما بدا مُحكماً، سيصبح بلا فعاليّة أو تأثير. وهذا ما يمكن تعلّمه في الساحات الجهاديّة، فوحده العشق للوصال الإلهيّ والإيمان الصافي العميق بالله يمكن أن يغيّر المعادلات؛ فقوّة الإيمان تعلو عندما لا يوجد لدى الشباب المجاهد أعلى من اللون الأحمر”.
يخبرنا الحاج قاسم -في مذكّراته- عن عوامل النجاح الحقيقيّ والنصر الإلهيّ، حيث يذكر خلاصة تجربته عن واحدة من أصعب العمليّات العسكريّة(10) التي خاضها في ذلك الوقت. كانت المهمة تقتضي العبور من نهر أروند(11)، وعلى الرغم من كلّ الخطط التي أُعدّت، والجهد الذي بذَلته قوّات الاستطلاع إلا أنّ الواقع تبدّل على حين غرّة. تجربة الحاج الميدانيّة كانت تؤكّد استحالة الوصول إلى خطوط العدوّ، لكنّ العشق لم يقل ذلك. ذلك العشق الممزوج بالدموع وصيحات التوسّل بالسيّدة الزهراء عليها السلام، التي مسحت بيدها المليئة باللّطف على رؤوس المجاهدين(12)، كانت مفاتيح النصر.
* الشباب العاشقون
إنّ الحديث عن الشهداء هو حديث عن أرباب السلوك والمقامات. فلكلّ واحد من هؤلاء الشهداء قصة عظيمة مليئة بالمعاني العرفانيّة(13)، وكلّ عملية باسم شخص كان هو فاتح بابها. فهؤلاء لا يشغلهم متاع الدنيا وزينتها؛ لأنّ نغمات تهجّدهم تخبرهم أنّ ما عند الله خير وأبْقى.
يمسح اللّواء دموعَه المتساقطة حينما يذكر هؤلاء الغيارى والعاشقين، فهو يرى في كلّ واحد منهم مدرسة كاملة في الجهاد. بعضهم قادة كانت شهادتهم بالنسبة إليه كشهادة أفراد كتيبة كاملة(14)، وآخرون فتيةٌ آمنوا بربّهم فزادهم الجهاد هدىً، وأصبحوا بمنزلة عارف حقيقيّ، يحمل سبعين سنة من السير والسلوك(15). وفيهم من لا حدّ لعرفانه كـ(قاسم مير حسني) الذي وصفه الحاجّ بأنّه أمّةٌ في كلّ الساحات، ومنقذُ كل العمليّات والذي لم يرَ الحاج أحداً مثله(16).
وثمّة مَن لم يرضَ بمغادرة ساحة الجهاد رغم الإصابة كـ(حميد الفدائي) الذي أنقذه صاحب الزمان| مرّةً من الأسر(17). أما (مهدي زندي) فأثار خجل الحاج؛ لأنّ تكريمه له كان بمثابة ظلم بالنسبة إليه(18). وآخرون كثر كانت فتوحات الجهاد الكبرى تتوّج بدمائهم الزكيّة، فهم عباد الرحمان المتهجّدون بالذكر.
* أركان الجهاد في رؤية سليماني
إنّ أعظم الفتوحات الجهاديّة في رؤية الحاج قاسم سليماني: هو التوكّل على الله؛ ذلك أنّ الجهاد ليس عملاً عسكريّاً فحسب، بل هو عروج للنفس وفناء على طريق الله؛ حيث تتفتّح كل الخصال النفسيّة الخيّرة لأرباب هذه المسيرة والتي تكون ختامها بفضل الله مسك الشهادة. ولا يمكن لشعب يتوكّل على الله ويؤمن بالأئمة المعصومين عليهم السلام أن يهزم. لذا، فإنّ الجهاد كما يراه الحاج سليماني يحطّم كل السدود والموانع التي يصل إليها أيّ عمل عسكري.
إنّ الجهاد هو أحد الأركان المهمّة في الحرب، بالإضافة إلى الأخلاق والمعنويّات. كل هذه الأركان تمظهرت على الساحات الجهاديّة وكانت مشاهدات عينيّة للحاج سليماني؛ فبواطن المجاهدين كانت ثمينة كجوهرة، وقد حوّلتهم الجبهة بفضل الجهاد إلى أساطير ووصل أكثرهم إلى الشهادة(19).
العبوديّة والولاية، هما أساس الجهاد، وبغير هذا الإيمان لا يمكن السير على طريق ذات الشوكة. يفرد الحاج سليماني أهميّة خاصة للولاية وارتباطها بالإيمان، فولاية الأئمة الأطهار عليهم السلام هي أساس التحوّل التاريخي لإيران إلى الجمهورية الإسلاميّة. لقد قدّم الإمام الخميني قدس سره أعظم هديّة لإيران، وهي ولاية الفقيه. وما ثبات هذه الجمهورية وبقاؤها إلّا بقيادتها الحكيمة، فالسيد القائد عليّ الخامنئيّ دام ظله هو قدوة وعلم لجميع العلماء(20).
(1) قاسم سليماني ذكريات وخواطر، إعداد: علي أكبر مزدآبادي، ط1، تعريب: مركز المعارف للترجمة. دار المعارف الإسلامية 2017م. ص 9.
(2) كان الحاج سليمانيّ قائد لواء “صاحب الزمان السابع” عام 1990م. أما حاليّاً فهو قائد فيلق القدس أحد أهم الفيالق في الحرس الثوريّ الإيراني. يذكر السيد حسن نصر الله (حفظه الله) الدلالة العميقة لهذه التسمية في إحدى المقابلات على قناة الميادين ويصفه بالحبيب والعزيز.
انظر:
https://www.youtube.com-watch?v=k8t4e7QA7*E
(3) تقع محافظة كرمان جنوبي الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة.
(4) قاسم سليماني ذكريات وخواطر، (م. س)، ص99.
(5) كعملية: ثامن الأئمة، طريق القدس، الفتح المبين، عمليات كربلاء4، عمليات كربلاء 5.
(6) (م. ن)، ص20.
(7) (م. ن)، ص78.
(8) (م. ن)، ص89.
(9) (م. ن)، ص60.
(10) (م. ن)، ص80.
(11) نهر يتكون من التقاء نهري دجلة والفرات، ويقع على الحدود الإيرانية العراقية.
(12) (م. ن)، ص50.
(13) (م. ن)، ص49.
(14) (م. ن)، ص13.
(15) (م. ن)، ص42.
(16) (م. ن)، ص71.
(17) (م. ن)، ص30.
(18) (م. ن)، ص58.
(19) (م. ن)، ص94.
(20) (م. ن)، ص101.