ولدي كان يبلغ من العمر 6 سنوات عندما توفّي والده، وأعاني معه طوال اليوم، فهو يتخيّل أنه يكلّم أباه، يناديه، يتحدّث معه ويردّ على نفسه كأنّ والده يجيبه. وعندما أحاول أن أتناقش معه وأمنعه من ذلك يبكي وينادي “بابا”. لا أدري ماذا أفعل وكيف أعوّضه غياب أبيه وتعلّقه الشديد به مع أنّني حنونة جداً معه لكنّي لا أدري كيف أتصرّف حتّى أجعل ولدي يتكيّف مع هذا الوضع. أتمنى مساعدتي للتخلّص من هذه المشكلة.
*دوره خاصّ به
في مختلف المجتمعات، يحتلّ الأب مكانة خاصّة ويلعب دوراً رئيسياً في تماسك الأسرة واستمرارها. فوجوده ليس مجرّد وجود فرديّ أو اقتصاديّ أو اجتماعيّ، بل دوره الأهم: نفسيّ وروحيّ في تكوين شخصيّة الأبناء.
فوجوده يتيح للأبناء الاقتداء به، الأمر الذي يعتبر حيويّاً بالنسبة لتكوين شخصيّتهم ولتوازنهم النفسيّ. لا سيّما في المرحلة الأولى من طفولتهم.
والطفل يكوّن صورته عن ذاته من خلال تعامل أسرته معه، لا سيّما تعامل الأب الذي يشكّل نموذجاً يحاول دائماً التماهي به وتقليده في حركاته وأقواله وأفعاله، فلا يمكن لأيّ شخص آخر أن يقوم بالوظيفة نفسها التي يقوم بها الأب، حتّى الأم مهما بلغت من قوّة الشخصية.
*طفلي بعد الغياب
يمثّل الأب الحماية والأمان والانتماء والتقدير والراحة للطفل، وهي حاجات تنمو بها نفسه ويتأسّس عليها كيانه المعافى. وغيابه أو البديل عنه لا يحقّق إشباعاً جيّداً وكافياً لهذه الحاجات، بل سيجعله أمام خيارات متعدّدة في السلوك الظاهر أو الخفيّ.
تتحدّد الخيارات حسب نمط شخصية الطفل وظروف البيئة التي انتقل إليها فتكون:
1- بالدفاع عن نفسه وتأمين الحماية لذاته، “وكأنّه هو سيّد نفسه” لعدم ثقته بالمربّي البديل، والدفاع بالسلوك العدوانيّ والعنف والفظاظة والعناد والمشاكسة والكذب، كونه لم ينضج بعد ليدافع عن ذاته بطرق أكثر تكيّفاً وتحضّراً.
2- بالقلق والتوجّس على نفسيّته متمثّلاً بالحركة المفرطة التي لا هدف لها. مع تشتّت في التركيز وتململ واندفاعية وعدم تفكير عقلانيّ.
3- الخوف والحساسيّة المفرطة من الآخرين وسرعة التبدّل في المزاج.
4- تغلّب الشعور بالعجز والإحباط فيُصاب بالكآبة والوهن ويلجأ إلى الانسحاب والعزلة، وقد يفكّر بالموت ويتمنّى الذهاب إلى أبيه، حيث الأمان والحماية لا تتحقّق إلّا معه. حسبما وجد بعد فقده.
قد يتولّد بعضُ هذه الخيارات أو كلُّها، إذا لم تُقدّم له الحاجات بالطرق الصحيحة والكافية من المربّي البديل.
*كيف تربّي الأمّ أبناءها بعد الغياب؟
لا شكّ في أنّ مسؤولية التربية تقع على عاتق الأبوين وهما مسؤولان عن الطفل أمام الله، يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته”، فعندما يغيب الولد بشكل مفاجئ بسبب الموت يبقى الطفل مع والدته وقد تحتار كيف تتعامل معه، كيف تعوّضه غياب والده وتظل تشعر بالمسؤولية تجاه تنشئته سليماً لأنّ أيّ خلل سيجعل ميزان المنظومة التربويّة يختلّ بالتأكيد.
*كيف تُعوّض؟
1- تأمين الاحتياجات الأساسيّة: بعض الأمهات قد يسرف كثيراً في شراء متطلّبات الطفل كتعويض للنقص. وهذا خطأ إذ يجب تجنّب تدليله بحجّة تعويض الحنان، ولا بدّ من تحكيم العقل قبل العاطفة لمصلحة الطفل، فخير الأمور أوسطها.
2- تأمين الحماية والأمان للطفل.
3- عدم تعدّد المرجعيّة للطفل: أن يكون المسؤول عنه شخص واحد يُرجع إليه في السماح والمنع والثواب والعقاب وفي كلّ تفاصيل حياته. إنّ تحديد شخص راعٍ للطفل مسألة مريحة جدّاً له، شرط أن يقبله الطفل كراعٍ له.
4- الحزم والضبط في التعامل معه: هي حاجة نفسيّة تحقّق له الأمان.
5- إشباع الحاجة إلى التعلّم: توفير بيئة تعليمية مناسبة حسب الإمكانية المتوفّرة.
ومن هنا نرشد الأم الفاضلة إلى:
1- عدم إشعاره بنبرات الحزن والأسى، التي قد تنطبع على الأم وتنتقل له دون أن تشعر.
2- عدم إهمال أسئلة الطفل عن والده، وأن تكون الإجابة وفق ما يفهمه.
3- عدم ذكر الأب بأيّ أمر سيّئ أمام الأبناء حتى لا يحملوا له الكراهية، وعدم مدحه كثيراً حتى لا يتعلّقوا به.
4- تجنّب نظرات الشفقة والرحمة له، حتّى لا يشعر بالنقص أمام الآخرين.
5- إذا شاهد زميله أو أحد أقربائه مع والده وهو يهتمّ به أو يدلّلـه فعلى الأم أن تبادر بالاهتمام به والتحدّث معه والتحاور حتّى لا يشعر بالإحباط والأسى.
*غياب الأب وتأثيره على المراهق
لا يرى علماء التربية في غياب الأب مشكلة في سنوات الطفولة الأولى؛ حيث ينشغل الطفل بلعبه وحاجاته، مكتفياً بحبّ أمه ورعايتها له، ولكن الأمر يختلف حين يدخل مرحلة المراهقة، فتكون المعاناة في البداية على شكل خجل وانطواء وشرود وسرحان، ثمّ تكبر لتشكّل اضطرابات نفسيّة كاليأس والاكتئاب.
وتأخذ مظاهر اضطراب المراهق بسبب افتقاد الأب صوراً عدّة أهمها:
1- قلق دائم من كلّ شيء حوله.
2- خجل مذموم يمنعه من أخذ حقوقه.
3- حزن وميل للكآبة على أتفه الأسباب.
*خطوات العلاج للمراهق
تزداد مهام الأم صعوبة بعد غياب الأب وترى أنه لا بدّ أن يُربّى الأبناء بشكل وكأنّ الأب موجود معهم. هذه النصائح تفيد في خطوات العلاج للواقع الجديد على المراهق وهي:
1- توفير الجوّ النفسيّ الملائم في البيت ماديّاً ومعنويّاً.
2- وجود البديل عن الأب حتّى يستطيع المراهق التعايش مع بعض جوانب صورة الرجل.
3- الحرص على توفير الجوّ الاجتماعيّ المناسب ولقاء الأصدقاء أو التحدّث معه عن قيمة الصداقة وسبل استمرارها.
4- توفير التواصل بين أهل الأب والابن كما كانت في وجود الأب، وتكليفه ببعض المهام الأسرية التي تتّسم بالطابع الرجوليّ ومناقشته في كيفية القيام بها.
5- عدم إضاعة الوقت، وإشغاله بالرياضة أو محاولة دمجه في مهامّ الرجال وعالمهم.
6- الحديث مع الابن عن ذكريات طفولته، ومواقف جميلة مرَّ بها، عن دراسته وأسباب نجاحه، أحلامه وما أنجزه منها، بمعنى أن ينقل له ما يدور بفكره وما يحلم به رجلاً كرجل.
7- على الابن المراهق أن يتفهَّم ويعي تماماً أسباب غياب الوالد.
وفي الختام أقول هذه الكلمات لكلّ أمّ تتحمّل مسؤولية أبنائها بمفردها:
لا تقلقي على مستقبل ابنك وتربيته، فالله هو من خلقه ولن يضيّعه. عليك فقط أن تبذلي جهدك في تربيته تربية سليمة قائمة على الحزم، والرعاية، والاهتمام، وتوفير الحاجات النفسية اللازمة لنموّه، والمجتمع يشهد كم طفلاً تربّى دون أب، وكان ناجحاً في حياته العامّة العلميّة والعمليّة، ولكن الأهمّ من كلّ ذلك هو التربية الإسلامية القائمة على زرع مبادئ الدين والمتابعة.