Search
Close this search box.

الدعاء: رَشْفُ الحُبّ

الدعاء: رَشْفُ الحُبّ

* الدعاء هو العبادة

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 56).
وفي الحديث المنقول عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “الدعاء هو العبادة1.
ولمّا سُئِل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قال عليه السلام: هي العبادة الكبرى2.
وتتجسّد قيمة الدعاء وأهميته في تحقيقه جوهر العبودية. حيث إنّ الدعاء عملية شدّ الإنسان إلى ربه وربطه بخالقه ومصدر وجوده، لذلك هو جوهر العبادة وروحها لأنه إقبال من العبد على ربه، وتقرّب إليه. ولا ريب بأنه لا توجد عبادة تقرب العبد من ربه كما يفعل الدعاء، ولذلك جاء فيما روي:الدعاء مخ العبادة ولا يهلك مع الدعاء أحد3.

* فلسفة الدعاء

قد يسأل سائل لماذا كان الدعاء؟ للإجابة عن هذا السؤال نبدأ من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (فاطر:15).
إنّ الإنسان مخلوق، وكونه مخلوقاً فقد بني وجوده وجبلت ذاته على الفقر والاحتياج. بمعنى كون الفقر والاحتياج من ذاتيّاتنا، وكما قيل فالإنسان هو فقر محض، وهو – كما قال الإمام الخميني قدس سره – عين الفقر والاحتياج.
فالإنسان لديه حاجات شتّى، فثمّة حاجات بدنيّة وماديّة. وأخرى نفسيّة وعاطفيّة وثالثة عقليّة. وهناك حاجة أصيلة مكينة هي حاجته إلى الاتصال بمبدئه ومصدر وجوده وعلّة حياته الّذي أفاض ويفيض عليه ما به وجوده ابتداءً واستمراراً.
ومع إدراك العقل للفقر هذا فإنّه يفرض. وكذلك الفطرة ترشد إلى أن يتوجه الإنسان إلى غني بلا فقر وقوي بلا ضعف، وعالم بلا جهل، وكريم بلا حدّ، ورحيم تسع رحمته كل الأشياء. ولن يجد سوى الذّات الإلهية تحمل هذه الصّفات..

يقول الشهيد مطهري قدس سره:

إن لكلّ امرئ طريقاً من قلبه إلى الله فثمّة باب في كل القلوب يفتح عليه سبحانه، فحتّى أشقى الأشقياء، نجده عند الابتلاء وعندما تنقطع به الأسباب تنتابه هزّة ويلجأ إلى الله، وهذا أمر أصيل في فطرة الإنسان“… ثم يضيف: “إنّ هذا الاتجاه الفطري يتجلّى عند تقطّع الأسباب ويتوجّه إلى القدرة القاهرة الغالبة على الأسباب والعلل الظاهرة4.
وعليه إنّ تشريع الدعاء من الله، مع غناه عن العبد وعبادته، هو تفضّل منه تعالى لإشباع الحاجة والفطرة، وقد عبّر تعالى عن ذلك بالأمر القرآني: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر:60).
وبعبارة موجزة الدعاء هو استجابة إلهية لحاجة إنسانية من موقع ربوبيّة الغنيّ الحميد.
والإنسان فقير إلى الله لا لكونه علّة وسبباً في قضاء الحوائج، وتحقيق الآمال

بل لأنّه هو بنفسه قبلة الآمال ومنتهى الكمال الذي تتوق النفوس وتسعى إليه بفطرتها. ولا طريق للنّفوس لسلوك طريق تكاملها إلا بعبادته وطاعته.
فقوله تعالى: ﴿أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ ربما باعتبار ذاته الجامعة لكل الكمالات. وبالتالي فالفقر هو إلى الله كما هو إلى ما عند الله والدعاء وسيلة الاثنين معاً.

* الدعاء عناية إلهية

قال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (الفرقان: 77). فمنطوق الآية هو نفي العناية الإلهية عن مَنْ لم يتوجه إلى الله بالدّعاء. ومفهومها هو “أنّ ما يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند الله هو الإيمان بالله والتوجّه إليه والعبوديّة له…”5.
وعليه فإنّ فتح باب الدعاء وتشريعه والإذن للإنسان به هو تكريم للإنسان. ووسيلة له ليحصل على العناية الإلهية. ولذا، جرياً مع التعبير القرآني. سنعرض بعضاً من آثار الدعاء التي هي من ألوان العناية الإلهيّة:

1 – الدعاء يقوّي الارتباط بالله

والدّعاء هو ممارسة عمليّة للإيمان بالله. فمن جهة لأنّه بالدعاء يستحضر العبد ربه مخاطباً حيّاً سميعاً، عليماً، رحيماً، مجيباً وبالتالي حاضراً فقريباً ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (البقرة: 186). والدّعاء يفتح الأفق أمام الإنسان ليعيش القرب الإلهي للوصول إلى رؤية طغيان الحضور أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك6.

2 – الدعاء ينمي المعرفة

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الدعاء سلاح المؤمن وعامود الدين ونور السماوات والأرض7.
فالدعاء وسيلة لأهم معرفتين: الأولى معرفة النفس وهي مقدمة للمعرفة الثانية معرفة الله وربوبيّته. فالداعي حتى يكون داعياً لا بد أن يشعر بفقره، ونقصه، واحتياجه ويتوجه من هذه المعرفة إلى من لا يعتريه فقرٌ ولا نقص. وبالتالي يتعرف على صفات الخالق وأسمائه الجماليّة الجلاليّة. وبذلك يكون قد حقّق في نفسه التوجّه من ذلّ العبوديّة إلى عزّ الربوبيّة.

3 – إصلاح النفس وتربيتها

للدعاء أبعاد نفسيّة وتربويّة نذكر منها ما يلي:

قمع الكبر:

إن الدّعاء يقمع في النفس البشرية توثّبها نحو الكبر. وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين(غافر:60).
مقاومة اليأس ورفع روح الأمل: الدعاء يقوّي روح المقاومة في النفس ويضعف عوامل العجز والاستسلام.
الدعاء رشد: حيث يدفع الإنسان إلى تقدير الأمور وترتيب الأولويات. ويبعث على الرشد لأنه أيضاً التفات إلى البعد غير المادي في النفس، قال تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة:186).

4 – الدعاء تحرّر

لعلّ من أكبر الحجب التي تحجب الإنسان عن ربه. ومن أشدّ الأغلال التي تقيّد عقله وقلبه، الأسباب الظاهرية للأمور وانقطاعه لها، فالدعاء يكسر سلاسل العبودية للأسباب التي تقيّد الإنسان ويحطّم أصنام العلل الظاهريّة متحرّراً ومحرّراً قلبه ليتوجه إلى مسبّب الأسباب وإله الحق.

* الدعاء وقضاء الحوائج

إن الدعاء كما هو مطلوب لغيره مطلوب لنفسه لأنّه لذّة روحيّة يجد طعمها من استيقظت ذائقته على هذه الأبعاد؛ وهو لذة روحية لأنه تواصل مع المحبوب الأزلي الأبدي… حيث يجد العاشق معشوقه فيجلس بفنائه مثنياً على جماله وجلاله فإذا وجده لم يفقد شيئاً ماذا وجد من فقدك وماذا فقد من وجدك8.
وقد يصل إلى حدّ الاستغراق في جماله وهيبته فيستغني عن حاجته كما هو المروي عن السيدة الزهراء عليها السلام: شغلتني عن مسألته لذّةُ خدمته، لا حاجة لي غير النظر إلى وجهه الكريم9.
فغاية الغايات من الدعاء والصلاة وكل العبادات أن يطأ العبد بقدم العبودِيّة بساط الحبّ الإلهي. حيث يصبح الدّعاء كالحَبِّ الذي يُنثَر للطائر ليجد طريقه إلى المأوى فيأوي، وليترقّى من زقّ الحَبّ إلى رشفِ الحُبِّ ، وإلاّ كان الخسران كما قال الإمام الحسين عليه السلام: “… وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبِّكَ نصبياً10.


1- مجمع البيان، الطبرسي، ج8، ص528.
2- تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، ج4، ص528.
3- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي، ج93، ص 302.
4- محاضرات في الدين والاجتماع، الشهيد مطهري، ص109، 120.
5- الأمثل، الشيرازي، ج11، ص328
6- الوافي، الفيض الكاشاني، ج1، ص488
7- الكافي، الكليني،ج2، ص468
8- دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة، مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، ص427.
9- الخصائص الفاطمية، الشيخ محمّد باقر الكجوري، ج2، ص385.
10- دعاء عرفة.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل