الشيخ علي الشيرازي
تحولت العقلانية في التعاليم الإسلامية إلى كلمة تساوق الدين، إلى الحد الذي أشارت فيه الأحاديث والروايات إلى تساوق العقل والشرع.
بنى الإمام مدرسته على أساس الإسلام الأصيل. وإذا ما ورد في مدرسة الإمام الخميني حديث عن العقلانية، فإن هذا المَعْلم أنشأه الإسلام المحمّدي الأصيل.
يقول الإمام الخميني في 22 مهر 1357 [14/10/1978]: «يملك الإسلام نظرية لهذا الإنسان الجامع لكل شيء، أي له مراتب من عالم الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة وحتى عالم اللاهوت، ولديه برنامج له. يريد الإسلام أن يبني إنسانًا جامعًا، أي أن يمنحه الرشد بالنحو الذي ينبغي. فإذا كان على سبيل الطبيعة، فسيعطيه نموًّا طبيعيًّا، وإذا كان على سبيل البرزخ، فسيمنحه رشدًا برزخيًّا، وإذا كان على سبيل الروحانية، فسيمنحه تعاليًا روحانيًّا، وإذا كان على سبيل العقلانية، فسيهبه تساميًا عقليًّا».
ما أكثر العوالم في ذهن العقل
ما أوسع هذا البحر الذي للعقل
هذا العالم فكرة من العقل الكلّي
العقل كالملك والصور هي الرُسل
في 26 تير 1361 [17/07/1982]، كتب هذا الحكيم العالم في رسالة عرفانية لحجة الإسلام الحاج أحمد الخميني: «تتحول هذه الخطوة البرهانية والعقلية إلى خطوة روحية وإيمانية، عندما تصل من أفق العقل إلى مقام القلب، ويصدّق القلب ما أثبته الاستدلال العقلي».
وأورد الإمام أيضًا في رسالته لغورباتشوف، زعيم الاتحاد السوفييتي: «إن معيار المعرفة في الحكمة الإلهية هو أعمّ من الحس والعقل، فيدخل المعقول [المدرك بالعقل] في دائرة العلم».
البُعدان المهمّان والأساسيان في مدرسة الإمام الخميني، هما البُعد المعنوي والبعد العقلاني.
يقول الإمام الخامنئي في 14 خرداد 1390 [04/06/2011]:
«فيما يتعلق بالبعد العقلاني، فقد كان إعمال الحكمة والتدبير والفكر والتخطيط، محط اهتمام في مدرسة الإمام».
الانتخابات بمحورية الشعب، التشدّد وعدم الليونة تجاه العدو المعتدي، عدم الركون إلى الأعداء والمستكبرين، بث روح الثقة بالنفس، وتفهيم الشعب أن البلد ملك له؛ هي من مظاهر عقلانية الإمام في مدرسته الواهبة للحياة. جميع مظاهر العقلانية هذه، مع إعمال الحكمة والتدبير والفكر والتخطيط، تتجلى للعيان بدقة في مدرسة الشهيد سليماني.
في بهمن 1388 [شباط 2010]، يقول هذا القائد العزيز في جمع من قوّة القدس التابعة للحرس: «يختلف العراق بشكل أساسي عن اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية. لا يمكن أبدًا للأميركيين أن يبقوا في العراق وينشئوا قواعد. لن يأتي يوم يكون فيه العراق ككوريا واليابان وألمانيا. يوجد هذا الاختلاف في الثقافة وفي الحدود المحيطة، وفي وجود الجمهورية الإسلامية وهذا الشعب… كنّا نسمع في الماضي أنه كان على كل من يريد زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) أن يقدّم يده [ليقطعوها]. واليوم، فإنّا نرى بأمّ أعيننا، ويعلم الجميع أن التفجيرات تقع في هذه الطرق [المؤدية إلى مقامات الأئمة في العراق]، والأمر يشتد في هذه السنوات كل عام أكثر من سابقه، وينطلق الناس حفاة نحو كربلاء. لو كان لدى الأمركيين عقل ولو بمقدار ذرة، إذًا لعلموا برؤيتهم لهذه المشاهد، أن العراق ليس مكانًا يمكنهم البقاء فيه».
العقل والتدبير والفكر والتخطيط تضجّ بها تصريحات القائد سليماني. والتشدد وعدم الليونة تجاه الأعداء مشهودان ويتجليان في رؤيته وفي كلامه. وبث روح الأمل والثقة بالنفس يتجليان للعيان في خطبه.
عام 1391 [2012 – 2013]، يقول القائد سليماني في حشد من قوّة القدس التابعة للحرس: «اعتقادي هو أنّ الله تعالى قدّر في هذه الوقائع [هجوم المسلحين] في سوريا، خيرًا عظيمًا لثورتنا… من المتيقن أن لا أمل في سيطرة المسلحين. كانت دعايتهم قوية جدًّا في قضية [السيطرة على] دمشق، ولم يتمكنوا، ثم ركزوا دعايتهم الواسعة على حلب… وفي حلب أيضًا لم ينجحوا بفضل الله تعالى. ويمكنني الآن القول: إنّ ما يزيد عن 80 بالمئة من أراضي سوريا تسيطر عليه بنحو بنيوي الدولة السورية. لقد سقطت هيمنة هذا المشروع، والجميع يقر بذلك… وحتى لو جاؤوا بضعف هذه القوات، فإنّ هذا المشروع سقط».
هذه التصريحات هي ثمرة عقلانية القائد الحاج قاسم سليماني وتدبيره وتخطيطه. وقد كان ظلّ العقلانية والتدبير الذي ألقى بنفسه على عمله، متجليًا وبارزًا.
يقول الإمام الخامنئي في 18 دى 1398 [08/01/2020]: «كان الشهيد سليماني شجاعًا، كما كان مخططًا. لم يكن شجاعًا وحسب. بعضهم لديهم الشجاعة، إلا أنهم لا يملكون العقل والتدبير الضروري لإعمال هذه الشجاعة. وبعضهم مخططون،
إلا أنهم ليسوا من أهل العمل والإقدام، وليس لديهم الجرأة على العمل. كان لهذا الشهيد العزيز الجرأة والتخطيط -كان يقتحم المخاطر ولا يهاب شيئًا، ليس فقط في أحداث هذه الأيام، بل في أثناء مرحلة الدفاع المقدس أيضًا في موقع قيادة فرقة «ثار الله» كان كذلك، هو وفرقته- . فكان يفكر ويخطط، وكان يملك منطقًا لأعماله. ولم تكن هذه الشجاعة وهذا التخطيط في المجال العسكري فقط، بل كان كذلك في ميدان السياسة. لطالما تحدثت، أنا العبد، للأصدقاء العاملين في الساحة السياسية عن هذا: عن سلوكه، وعن أعماله. كان في مجال السياسة شجاعًا كما كان مدبّرًا. كان لكلامه أثر، وكان مُقنِعًا، وكان يؤثّر».
يقول السيد حميد رضا فراهاني: «كان الحاج قاسم أعطى تعليمات لوحدة الدعم والمؤن في الفرقة، ليرسلوا بضع كيلوات من شحم الإلية إلى الجبهة [خلال الحرب المفروضة]. لما وصل الشحم إلى الجبهة، أمر الحاج قاسم باضرام نار، ووضع الشحم فيها. شرع الشحم بالاحتراق وطغت رائحة الشواء على كل الجبهة. في اليوم الأول والثاني، وبغية تعزيز روحية المقاتلين في الخط الأمامي، أمر الحاج قاسم وحدة المؤن بإعداد طعام ساخن ولذيذ. كان طعام الخط الأمامي يومذاك «تشلوکباب» [أرز مع كفتة]، ومشروبًا غازيًّا في علب معدنية باردة… وعوضًا عن فتح النار على خط العدو؛ أمر الحاج قاسم شباب الفيلق ليرموا علبهم المعدنية الفارغة كالقنابل اليدوية إلى ما وراء سواتر البعثيين الترابية.
أخذت العلب المعدنية الفارغة تتساقط كالمطر من خطنا إلى ما وراء سواتر العراقيين. وأيضًا فعلت العلب فعل القنابل اليدوية، بحيث إن مَعِدات الجنود البعثيين الجوعى والعطاشى تفجّرت فيها الحوامض المعوية. أحدثت رائحة الشحم المشوي وعلب المشروب الغازي الفارغة زلزالًا في خطوط الدفاع العراقية. لم تمض بضع دقائق، حتى ظهر أول جندي عراقي بقميصه الداخلي الأبيض، ويديه المرفوعتين استسلامًا، بين الساترين الترابيين [العراقي والإيراني]. أخذ الجندي العراقي يركض، وألقى بنفسه عند ساترنا الترابي. أخذه الشباب إلى الحاج قاسم. أمر الحاج قاسم بإعطائه وجبة تشلوکباب مع مشروب غازي بارد. لمّا أنهى الجندي العراقي طعامه، أمر الحاج قاسم باطلاق سراحه. بداية لم يكن الجندي يصدّق…
لذا، كلما كان يمضي بضع خطوات، كان يستدير وينظر خلفه، إلى أن وصل إلى سواترهم الترابية، واختفى خلفها. بعد بضع دقائق، ظهر من خلف الساتر صف من الجنود العراقيين، بدا كالحية التي تزحف على الأرض من دون رمق… بلغ الحاجَّ قاسم خبرُ استسلام عشرين جنديًّا عراقيًّا، أمر وحدة المؤن ليرسلوا بضعة مئات من وجبات الشواء الساخن إلى الخط… فتح الحاج قاسم الساتر الترابي العراقي من دون إطلاق حتى رصاصة واحدة ومن دون إراقة الدماء»[1].
يدل هذا التخطيط على حكمة الحاج قاسم سليماني. لقد أعزّه عقله وتدبيره.
أخذ القائد سليماني هذه العقلانية من مدرسة الإمام الخميني، وقد كان الإمام يرى للعقل موقعًا ومقامًا بارزًا، وكان يعتقد أن قيمة الإنسان وموقعه الممتاز رهن امتلاكه للعقل، ذلك أن الحق تعالى بإعطائه العقل للإنسان فقد أعطاه كل شيء.
وبالنسبة للعقل، فقد كان الإمام الخميني يعتقد أن قيمة الإنسان وقيمة إنسانيته هي بهذه الثروة القيّمة والرفيعة، التي هي أساس تمايزه عن سائر مخلوقات الله تعالى.[2]
[1] حاج قاسم، سلام، ص 251 تا 253.
[2] كتاب طلب واراده [الطلب والإرادة]، ص 141 و142.