آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً﴾ (الفرقان: 63). تحدثنا فيما مضى عن وجود آيات قرآنية شريفة تذكر مجموعة من الصفات والخصائص الممدوحة، فتكلمنا حول المتقين، وبدأنا البحث حول التواضع حيث نكمل البحث حوله.
خصائص عباد الرحمان
تتحدث الآيات الأخيرة من سورة الفرقان حول صفات عباد الرحمان فتشير إلى أنهم:
1ـ يمشون على الأرض هوناً بهدوء وتواضع.
2ـ يتعاطون بشكل صحيح ومسالم مع الجاهلين. حيث يعمل عباد الرحمان على مواجهة الجاهلين بالعبارات والألفاظ التي لا تحمل أي نوع من الفحش والاستهزاء والتحقير.
* التناسب بين العبودية والتواضع
لماذا كانت هاتان الخاصيتان في رأس أوصاف عباد الرحمان؟ ففي الآيات الشريفة الأخرى كما في سورة البقرة عندما تحدثت عن المفلحين ذكرت أنهم الخاشعون في الصلاة. فجعلت الخشوع في الصلاة في رأس أوصافهم. فلماذا كان التواضع هنا على رأس الصفات؟ لماذا لم تتحدث الآيات لتبين أن عباد الرحمان هم المؤمنون بالغيب والذين يؤدون الصلاة بخشوع؟ طبعاً إذا أردنا تقديم جواب قطعي والقول إن الله تعالى تحدث في هذه الآيات على هذا النحو للأسباب الفلانية. فقد لا نكون أصبنا المطلوب ولكن يحتمل أن يكون ذلك لاقتضاء البلاغة أن يتم التعبير هنا بهذه الصفة.
بما أن الآية تتحدث عن العبد “عباد الرحمان” فإن من الأمور التي تتناسب والحديث عن العبد، الحديث عن التواضع، وطبعاً ليس بالمعنى المذموم. إذاً تبدأ الآية الشريفة الحديث عن عباد الرحمان بأنهم متواضعون يمشون على الأرض بشكل طبيعي من دون تكلف. وقد أشار بعض المفسرين إلى أن هذا التعبير كنائي يدل على أن حياتهم حياة التواضع وإلا فإن حدث المشي المتواضع لا خصوصية له.
* موقعية التواضع في النظام القيمي الإنساني
تتحدث الكتب الأخلاقية عن أن الإنسان المتواضع محبوب في المجتمع، يقبله الناس، ويحترمونه ويستمعون إلى كلامه لأن تواضعه يدفعه إلى الاستجابة والعمل على رفع حاجات الناس. والإنسان المتكبر على العكس من ذلك. إذاً لنعمل ما يؤدي إلى إقبال الناس وما يجعلهم يكنون الحب لنا وبالتالي تحصيل احترامهم. من جهة أخرى تحدثت كتب المنطق عن القيم الأخلاقية تحت عنوان “الآراء المحمودة” فجعلوها من جملة مقدمات القياس التي يستفاد منها في الجدل والخطابة. فعندما يقال: كونوا صادقين، فهذا يعني أن العقلاء يعترفون بحسن الصدق… وعكس ذلك “الآراء المذمومة”.
* المعيار الواقعي لقيمة الصفات والأفعال
هل قيمة الصفات بهذا الأمر فقط؟ وهل عندما نقول إن تلك الصفة محمودة. فهذا يعني أن العمل الحميد الذي يقوم به الإنسان مبنيّ على أساس احترام الناس وقبولهم، وعندما يقال إن قيمة العمل برضى الناس. فهذا يعني عند أصحاب بعض الفلسفات الأخلاقية أن العقلاء إذا اجتمعوا على حُسن الكذب والتكبر، فإن اجتماعهم يجعلهما جيدين مقبولين؟ فهل هذا الذي أراده الإسلام؟ يعتبر الإسلام أن الحَسَن والقبيح والالتزام بالقيم أو عدمه كلها أمور لا تعود فقط إلى إرادة الناس، بل الملاك في الحسن هو ذاك التأثير الذي يتركه على مستوى السعادة والشقاء الحقيقيين عند الإنسان. وبما أن ملاك السعادة هو “القرب من الله” فهو يترك أثراً في القرب منه تعالى.
* المعيار هو القرب والبعد عن الحق
وطبقاً لقاعدة أن الملاك هو القرب من الله، فقيمة التواضع والتكبر أنهما يؤثران في وصول الإنسان إلى السعادة والشقاء أي إلى القرب من الحق والبعد عنه، ولا يكون حسنهما وقبحهما لأن العقلاء يقبلون هذا ويرفضون ذاك. إذا أردنا أن ندرك عنوان عباد الرحمان. ونفهم الملاك والمعيار الذي جعله الإسلام للقيم. فهذا بحث عميق، ولكن يمكن القول إن جميع تعاليم الإسلام وهداية الأنبياء جاءت كي لا يبقى الإنسان مكنوناً في نطفته. بل ليخرج وليثمر أي ليصل إلى كماله اللازم، ولكن ما هو ذاك الكمال؟ وأين هو؟ وإلى أين يوصل الإنسان بعد حصوله؟ قد يصعب فهم ذلك بداية ولكن يصبح من السهل الإطلالة على هذه الأمثلة وغيرها عند الحديث عن مفهوم “القرب من الله”، حتى أن المشركين كانوا يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾ (الزمر: 3).
تتحدث المفاهيم الدينية عن القرب من الله حيث زرع الأنبياء هذه الثقافة وتبعتهم الثقافات الأخرى، وأما الطريق إلى ذلك فهو العبادة. ومفهوم العبادة أمر موجود في جميع الأديان. وإذا كان الطريق إلى القرب من الله يمر عبر العبادة فإن ما يناسب العبادة هو التواضع وليس التكبر. عندما يتحرك العبد في طريق القرب من الله عليه أن ينفي جميع الأشياء عن نفسه، وأن يعتبر نفسه متواضعاً حقيراً أمام عظمة الخالق. وعلى هذا الأساس فإن سرّ كون التواضع قيمة إلهية ليس كونه قيمة عرفية أو لوجوده في الثقافة العامة أو لقبوله عند العقلاء، بل المعيار هو قبول الحق ورضاه.