1- ينشأ الانسان على سطح البسيطة، وكله امل وتفاؤل في ظل عيش رغيد وحياة هانئه، ويتقلب بين فيافيها كيفما يشاء وكيفماء يحب، فيأكل ويشرب ويلبس ويتزوج ويتناسل. ويتطلع أن يستمد العمر المديد والاستمرار في رحب العيش، الا أنه يواجه في حياته بعض الصعاب والمتاعب التي تحول دون امنياته، فتسلب منه راحة البال وتحول دون تحقيق تطلعاته ورغباته والراحة والدعه. فترتد عليه الصعاب والمحن. وتنقلب حياته راسا على عقب.
2- إن الانسان وفق الرؤية الكونية الالهية من اجل وارفع مخلوقات الله تعالى. واعلاها رتبة في عالم الدنيا، وانه خلق من اجل التكامل والتدرجات في المراتب العليا واخراج ما بالقوة الى الفعلية والسرورة التدريجية بواسطة المنهج التوحيدي المرتبط بالله سبحانه وتعالى. وصولا الى الغاية القصوى والاسمى وهو الارتباط التام بالحق جل وعلا:( وان الى ربك الرجعى).
3- إن تكامل الانسان وحركته الصعودية نحو الكمال لا يمكنها أن تتحق دون وجود القوة والاستعداد. أي المادة،إذ إن الحركة تحتاج الى مادة قابلة لتعاقب الصور عليها. ولا تتحق اذا ما كانت فعلية تامة لا استعداد فيها. وهذا غير ممكن الا في ظل النظام الكوني الذي نعيشه ونعرف جزءا ظاهرا منه.
4- إن نظام الكون يخضع لقانون القصدية والعلاقة والترابط. فما من شيء يوجد الا وله في حد نفسه نظامه المعين الخاص الذي يحدد هويته والتي بدورها تحدد وجهته. وكذلك علاقة الترابط بين الاشياء. فمن الاول نرى ان اي موجود له خاصيته المعينة، فالانسان هويته انه مفكر شاعر حساس متحرك نام. والحيوان كذلك نجد فيه الاحساس والحركة والنمو، في حين نجد ان الحجر عبارة عن كتلة جامدة لها خاصية الصلابة لا تنمو ولا تتحرك.
والموجودات مترابطة فيما بينها، فالانسان يحتاج الى الهواء والماء والغذاء وهكذا بقية الموجودات كل له حاجته وارتباطه الخاص، وهي تؤثر في بعضها وتتاثر، فالشمس والقمر يؤثران في حدوث الليل والنهار، والمد والجز، وهبوب الرياح وغيرها، وهكذا اذا ما اخذنا ملاحظة الاشياء بصورة مفصلة.
5- ان الموجودات بشكل عام كل منها يسعى للوصول الى غايته المنشودة، وكل حسب مرتبته الوجودية، وهو ما يسبب التعارض والتصادم في بعض الاحيان. فالافعى تسعى الى تحصيل طعامها فاذا ما صادفت امامها موجودا ما تتحرك نحوه من اجل الحصول على غذائها، فهي لا تنفث السم على الانسان لانها تقصده بالذات- كما ان السم فيها ليس ضررا عليها وانما بنيتها الوجودية تقضي وجودها فيها- وانما تسعى لتهيئة غذائها الذي تحتاج اليه، وبدن الانسان غير قادر على تحمل حرارة المادة السامة الواصلة اليه، فلذلك نسميه ضررا او شرا.
فعالم الدنيا حقيقته أنَّه عالم المادة، وعالم القوانين الحاكمة على المادة. وعالم التزاحم، وحقيقة كوكب الأرض أنَّه مخلوقٌ من هذه المادة، ومحكومٌ بالجاذبية، ولا يمكن أن توجد الأرض وهي مكونةٌ من حقيقةٍ أخرى، لأنَّ ما سوف يوجد هو مكونٌ من حقيقةٍ أخرى وليس هو كوكب الأرض الذي نعرفه بل هو كوكبٌ آخر. فلا يمكن أنَّ يوجد عالم الطبيعة وعالم المادة ليس مكونًا من هذه الطبيعة وهذه المادة. وليس محكومًا بهذه القوانين الحاكمة على عالمنا، لأنَّ الذي سوف يوجد حقيقةٌ أخرى، فقول القائل: لماذا لم يُخلق عالم الدنيا كعالم الملائكة؟ يعني أنَّ الله (تبارك وتعالى) لم يخلق عالم الدنيا وإنما خلق عالمٌ آخر. نظير قولنا يخلق الرقم 3 فيكون فردًا، ولا يخلق الرقم 2 الذي هو زوجٌ.
6- فالشر في حقيقته نسبي وليس وجودا مخلوقا للباري تعالى. وهذا هو المعروف من كلمات الحكماء من ان الشر ليس موجودا، وانما منتزع من مقايسة الموجودات بعضها الى بعض. والدليل على أنّ الشرّ عدمي لأنّه (سلب الوجود)، إذ لو دققنا النظر في ما نعتبره شرّاً لرأيناه يرجع إلى حالة واحدة وهي سلب الوجود. فالمرض نراه شرّاً وهو ليس أمراً وجودياً، بل هو سلب نعمة الصحة. والفقر أمر عدمي وهو سلب الغني، والموت أمر عدمي لأنّه سلب الحيا.
فنزول المطر مثلا هو مقتضى طبيعة تحول الماء الى بخار نتيجة تعرضه للحرارة بدرجة معينة. واذا ما ارتفع الى مسافة معينة يجتمع حتى تحصل منه كتلة كثيفة وكلما ازداد حجمها عجز الهواء وتزداد قطرات الماء تدريجياً مع استمرار عملية التكاثف ويزداد حجمها وبالتالي يزداد وزنها. وتستمرّ عملية التكاثف حتّى تصبح السحابة مشبعةً تماماً وثقيلة جداً فيتمّ التخلّص من الحمولة على شكل هطول مطريّ
فينزل الى الارض لقوة الجاذبة، وهو في حد ذاته خير. ولكنه يتسبب الى الفيضان وانهدام الكتل الجبلية والنرابية والمنازل الكسنية. فيكون شرا اذا ما قيس الى الاثار التي تحدث في الموجودات الاخرى، الا انه خير في حد نفسه.
وهكذا فالانسان من كمال وجوده ان تكون رقبته مكاوعة وليست صلبة. والسكين من كمالها ان تكون حادة وليست حديدة، واليد من كمالها الحركة، الا ان السكين الحادة اذا مرت على رقبة الانسان تقطعها، فننتزع من هذا الفعل الشر.
فالشر في حقيقته نسبة ومقايسة وليس له وجود بحده.
7- العدل الالهي: من الضروري ان نفرق بين صنفين من العدل
الصنف الاول:
العدل الالهي في عالم التكوين وهو بمعنى اتقان خلقة الموجود وفق الهوية التي تراد له. وتمكينه مما اوجد فيه، فيعطي الله تعالى لكل مخلوق خلقه. ما هو لائق به، ولازم له. ولم تغب عنه القابليات عند الإفاضة والإيجاد أبداً. قال تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) طه: 50.
الصنف الثاني:
العدل التشريعي: وهو عبارة عن المواءمة بين التكوين وما يمتلكه الإنسان من قابلية الرشد والتكامل. واكتساب الكمالات المعنوية، وذلك من خلال إرسال الأنبياء، وتشريع القوانين الدينية، يقول عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل: 90.
ومن يتوهم معارضة الزلازل والبراكين للعدل الالهي مراده التعارض في الصنف الاول دون الثاني.
واذا ما امعنا بصورة فاحصة نلحظ ان من العدل الالهي تمكين الموجود من صدور الفعل عنه وفق هويته وجوهر وجوده وعدم الحيلولة بينه وبين فعله، والا لزم نقض الغرض، وقسر الموجود على خلاف ماهيته، وهذا خلاف الفرض، وعليه فصدور الزلازل والبراكين على طبق العدالة الالهية التكوينية وليس على خلافها. بل من يرى خلاف ذلك يقع في التهافت بين الايمان بالنظام التكويني وعدم الايمان بحدوث الكوارث الطبيعية.
8- والنتيجة التي نصل اليها انه يقع خلط لدى البعض في فهم العدالة الالهية وطبيعة النظام التكويني. فمن جهة يؤمن بالنظم والقوانين الحاكمة في الكون ويبحث فيها لاكتشاف المزيد منها. ومن جهة يرى ان النظام ينبغي ان يكون موجبا دوما والا يقع فيه حوادث سلبا. وهو يعني سلخ الماهية عن هوتها وعدم تاثيرها في مقتضاها.