الحسين أحمد كريمو
20 / 12 / 2022م
الدَّارس لتاريخ الحضارات البشرية تُعجبه وقد تُرهبه الحضارة الفرعونية في مصر العدية حيث أنها كانت من التَّقدم والتَّطور العلمي والحضاري المذهل، ولذا مازالت مثار بحث وجدل بين العلماء والمهتمِّين في الشأن التاريخي والحضاري على الخصوص، لأن الحضارة المصرية مازالت ماثلة أمامنا بكل رقيِّها وعظمتها، وكثير من تفاصيلها بقيت خفيَّة على العلماء في عصر التَّقدم والتَّطور والرُّقي العلمي والحضاري في عصر الحضارة الرَّقمية، التي تقف مبهورة ومشدوهة أمام تلك الأوابد التي مضى عليها أكثر من خمسة آلاف عام تتحدى كل الظروف الزمانية والمكانية، لتقول للزمان: أنا هنا فهل من عالم يكتشف كل معالمي ويعرف كل علومي؟
فالحضارة الفرعونية تتحدى أرقى النظريات بما بنته من إهرامات عجيبة، وهي مقابر فكيف كانت البيوت وهم في الحياة، وما وجدوه من الفراعنة وهم أموات وقد احتفظوا بأجسادهم لآلاف السنين، ومازال ذلك كله ألغاز لم يكتشف إلا بعض الجوانب العلمية فقط، وأتساءل كيف كانت حياتهم، وبيوتهم، ومعيشتهم في ذلك العصر وقبل آلاف السنين إذن؟
وكل ذلك مشهود ومنظور ولا إشكال فيه لأننا نراه بأمِّ العين ولكن ما يلفت النَّظر هو تلك الظَّاهرة الاجتماعية التي عاشتها مصر من الغنى والرَّخاء والنِّعمة الكبيرة والكثيرة حتى نمت فيها تلك العائلة الحاكمة التي أطلقوا عليها اسم الفراعنة بحيث كانوا يدَّعون الألوهية جهاراً نهاراً ويُجبرون الناس على طاعتهم وعبادتهم، بل وأنشؤوا لهم معابد، وصنعوا لهم أصناماً للعبادة حتى تتعجب أنهم كانوا يعبدون فرعون، أو يعبدون الصَّنم الذي صنعوه لفرعون؟
ولماذا نمت تلك الظاهرة في تلك الأرض، وذلك المكان الذي يجري فيه نهر النيل العظيم الذي عبدوه وقدَّسوه أيضاً في فترة من الفترات، لأنهم يرونه منبع الحياة لهم، فلولا نهر النيل لما قامت على ضفافه تلك الحضارة المترامية الأطراف والتي ربما هي أعظم حضارة بشرية وصلتنا إلى الآن، وهي تتنافس مع مهد الحضارات البشرية فيما بين النهرين وما يُعرف اليوم بالعراق حيث أنه شهد ولادة أول الحضارات وتعاقبت عليه حضارات كثيرة معروفة ومشهودة، ولكن الحضارة المصرية كانت تختلف من حيث التقدم والتطور العلمي الباقي إلى الآن وأما أوابد حضارة بين النهرين قرأنا عن الحدائق المعلَّقة، وبرج بابل، وغيره من العجائب ولكن أين هي الآن، أو هل هي كالإهرامات في مصر؟
فاللافت للنَّظر في الظاهرة الفرعونية؛ هي أنها نتاج حالة اجتماعية موجودة في كل زمان ومكان، وربما في كل بيت وأسرة ولذا صدق مَنْ قال: (إن كل إنسان يُخفي ما أظهره فرعون)، أي إذا وافقته الظُّروف، وتوفَّر له ما توفَّر لفرعون فلا عجب أن يقول كما قال فرعون: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات: 24)
ولقد شهدنا الكثير من هؤلاء الفراعنة الصِّغار حتى لو على زوجته وأولاده، ثم على عشيرته وقومه، وأخيراً ذقنا الويلات من المتسلِّطين على دولنا وشعوبنا الذين صاروا فراعنة بكل منعى الكلمة، وإن لم يقولوا ما قاله فرعون لفظاً ولكن قالوه عملاً وممارسة واقعية وبعضهم قيل لهم ذلك وطربوا لقول المنافقين كما قال ذاك البوق الشيطاني الذي قال لفرعونه:
مَا شِئْتَ لَا مَا شَاءَتِ الأَقدَارُ *** فَاحكُمْ فَأَنتَ الوَاحِدُ القَهَّارُ
هذا الفرعون لم يقل: أنا ربكم، بل قال له بوقه: أنت الواحد القهار، فلربما طرب وقهقه لهذا الذي يظنُّه مديحاً وهو في الحقيقة والواقع في قمَّة الذَّم والقدح لأنه قال ما قاله فرعون قبله، وهل هو إلا عبد صغير، وإنسان حقير، تطاول حتى خرج عن نفسه وجلده وتجاوز حجمه وحدَّه الصَّغير.
والقرآن الحكيم تحدَّث طويلاً عن قصة سيدنا موسى (ع) وفرعون وهي أطول قصة في القرآن الكريم ولكن أعتقد أن الغاية التربوية منها هو علاج هذه الظاهرة الخطيرة في البشر، فمَنْ يدرس الآيات الكريمة التي تناولت أقوال وأفعال فرعون يجد أن هذا الدَّاء النَّفسي، والمرض الرُّوحي الذي أصاب الفراعنة، وهو موجود ويمكن أن يصيب أي إنسان آخر إذا توفَّرت له الظُّروف والامكانيات التي كانت لدى فرعون ويمكن أن نقول عنها: مرض اجتماعي عندما تتحول الأمة، والناس، والشَّعب إلى عبيد لهذا الفرعون، ويُصدِّقونه في تكبُّره وتجبُّره ويخضعون له وهو يستذلَّهم ويُهينهم ويستعبدهم فيرضون به على علَّته ولا يرضا منهم إلا أن يعبدوه.
فالظاهرة الفرعونية الشعب والأمة تصنعها في الواقع الخارجي، لأن فرعون شخص واحد ومهما أوتي من مهارات، وامكانيات، وقوة فلن يستطيع أن يقهر شعبه وأمته إلا إذا هم رضخوا وأقروا له بذلك، ولذا صدق القول: “قيل لفرعون: لماذا تَفَرعَنتَ؟ فقال: فرعنت ولم يمنعني أحد”، فلو أن في قومه وأمته وشعبه أناس قاموا في وجهه ورفضوا أن يعطوه أكبر مما هو عليه لبقي في دائرة السلطة والحكم ولما تفرعن عليهم وادَّعى ما ليس له من الربوبية والألوهية وغير ذلك، ولما تكررت هذه الظاهرة النشاز في التاريخ.