تقع مقبرة البقيع في الجهة الجنوبية الشرقية للمسجد النبوي وهي مقبرة لها منزلة عظيمة عند المسلمين، فهي تحتضن أربعة من أئمة أهل البيت “عليهم السلام” هم: الإمام الحسن بن علي عليه السلام، الإمام علي بن الحسين عليه السلام، الإمام محمد الباقر عليه السلام والإمام جعفر الصادق عليه السلام بالإضافة إلى مجموعة من شهداء صدر الإسلام وأولاد النبي صلى الله عليه وآله وزوجاته إلاّ خديجة، وعماته، وعمه العباس وحاضنته فاطمة بنت أسد، ومرضعته حليمة السعدية، وعددٍ كبيرٍ من الصحابة والتابعين، وكبار القراء وحفظة القرآن والسادة الهاشميين. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يزور البقيع ويدعو لأهلها وقد ورد عنه: “يُحشر في هذه المقبرة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب”. وممن دفن في البقيع:
* فاطمة بنت أسد
هي أم الإمام علي عليه السلام الذي ولدته في داخل الكعبة الشريفة حيث شاء اللَّه تعالى لها من الإكرام والتعظيم ما لم يعطه لجميع نساء العالم بهذه الفضيلة التي خصّ بها ولدها إجلالاً لمنزلته وإعلاء لقدره. وهي حاضنة الرسول الأعظم صلى اللَّه عليه وآله وسلم الذي كان يكنُّ لها الحب والاحترام وكان يُكْرِمها ويُعظّمها ويدعوها “أمي” لما يجده من عطفها وحنانها وقد رُبّي في حجرها صغيراً، وحضنته يتيماً عندما كفله زوجها أبو طالب فكانت تقدّمه على أولادها في الخدمة والرعاية. كانت بمحل عظيم من الإيمان وكانت ذات صلاح ودين، وهي أول من أسلم من النساء بعد السيدة خديجة، وكانت أول امرأة تهاجر إلى المدينة. عاشت حياتها الكريمة إلى جانب أبي طالب بصبر وصدق وإخلاص وكانت وفاتها في السنة الرابعة من الهجرة. ولما توفيت خرج إليها الرسول صلى الله عليه وآله وأمر بقبرها فحُفر ثم لحد لها لحداً واضطجع فيه ثم نزع قميصه وأمر أن تكفّن فيه ثم صلى عليها عند قبرها وقال: “جزاك اللَّه من أم وربيبة خير فنعم الأم ونعم الربيبة كنت لي”، فقيل يا رسول اللَّه رأيناك صنعت شيئاً ما كنت تصنعه بأحد غيرها فقال: “أما قميصي فأردت ألاّ تمسّها النار أبداً إن شاء اللَّه وأما تمعّكي في اللحد فأردت أن يُوسّع اللَّه عليها قبرها وتأمن من ضغطة القبر”. يقع قبرها في الركن الشمالي الشرقي للبقيع بجوار الأئمة الأربعة وإلى جوار قبر العباس بن عبد المطلب في دار عقيل.
* فاطمة بنت حزام (أم البنين)
هي زوجة الإمام علي عليه السلام ووالدة أبي الفضل العباس، وهي تنحدر من قبيلة عربية معروفة بالشجاعة والشهامة. تزوجها أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة السيدة الزهراء عليها السلام بإرشاد أخيه عقيل حين طلب منه أن يختار له امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب ليتزوجها وتلد له غلاماً فارساً، وقد كان عقيل عالماً بأنساب العرب وأخبارهم فتزوجها الإمام عليه السلام وأنجبت له أربعة أولاد هم العباس وكان يلقب ب”قمر بني هاشم” وذلك لكماله وجماله، وجعفر وعثمان وعبد اللَّه. قدّمت أم البنين أولادها الأربعة فداء للإسلام ونصرة لأخيهم الحسين عليه السلام في كربلاء بعدما أرضعتهم لبن المروءة والفداء والإخلاص والوفاء وكانت بعملها ذاك مثالاً للأم المسلمة البارة المؤمنة وكانت أم البنين من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت عليهم السلام مخلصة في ولائهم ومودتهم ولها عندهم المحل الرفيع. عاشت مع أمير المؤمنين حياة الإيمان واستضاءت بنوره واستفادت من معارفه وتأدبت بآدابه وتخلقت بأخلاقه. وبلغ من عظمتها ومعرفتها وتبصرها بمقام أهل البيت أنها طلبت من الإمام علي عليه السلام ألاّ يناديها باسمها فاطمة لكي لا يتأذّى الحسن والحسين (عليهما السلام) وكانت حنوناً عليهما تلاطفهما وتلقي إليهما طيب الكلام. بعد أن توفيت دفنت في البقيع وقبرها في جوار قبر عمات النبي صلى الله عليه وآله على يسار الداخل إلى البقيع.
* سعد بن معاذ
هو سعد بن معاذ الأشهلي سيد من سادات الأنصار ومن السابقين إلى الإسلام في سبيل اللَّه وشهيد من الرعيل الأول وقد أسلم على يد مصعب بن عمير بين العقبة الأولى والثانية وأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل وهي أول دار أسلمت في الأنصار بعدما خاطبهم بقوله: “كلامكم علي حرام، رجالكم ونساؤكم حتى تؤمنوا باللَّه ورسوله”. وبعدما أسلم سعد بن معاذ تحولت داره إلى مركز اشعاع وبؤرة نور وقاعدة ينطلق منها دعاة الإسلام يحملون رسالة ربهم وينشرون تعاليم الدين الجديد في المدينة وضواحيها. وعندما بدأت مسيرة الإسلام الجهادية كان سعد بن معاذ في مقدمة المجاهدين وحاملي الألوية بين يدي رسول اللَّه فقد شهد بدراً وأُحداً منها ما حدث يوم بدر حين استشار رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الناس وكان يريد الأنصار فقال سعد: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أنَّ ما جئت به الحق، وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول اللَّه لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنّا لصبَّر عند الحرب، صدّق عند اللقاء، لعل اللَّه يرينا فيك ما تقر به عينك فسر بنا على بركة اللَّه. وقد حمل لواء الأوس يومها وكان ممن أصيب يوم الخندق وقد حسم النبي جرحه ثلاث مرات وعاش شهراً ثم انتفض جرحه فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فأتاه وكان في حالة احتضار فوضع رأسه في حجره وقال: “اللهم إن سعداً قد جاهد في سبيلك وصدّق رسولك وقضى الذي عليه فتقبّل روحه بخير ما تقبلت به روحاً”.
* أم سلمة
اسمها هند بنت أبي أمية، تزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وكانت أفضل أمهات المؤمنين بعد السيدة خديجة. هي مهاجرة جليلة ذات رأي وعقل وكمال قضت عمرها الشريف مهاجرة مدافعة عن عقيدتها ومبدئها وكانت صورة صادقة للإيمان الراسخ والاستقامة على المبدأ والسير على هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والولاء لأهل البيت عليهم السلام. كانت في طليعة النساء المسلمات والمهاجرات، سبقت إلى الإسلام وارتوت بتعاليمه وتخلّقت بأخلاقه وكان وجودها مع زوجها الأول (أبي سلمة) يضفي عليها مزيداً من العلم والإيمان فقد عاشت مع رجل كان في الرعيل الأول من المسلمين اكتسبت منه دروساً قيمة في السيرة والسلوك، وعندما تزوجها الرسول صلى الله عليه وآله كان لها من بين زوجاته الصدارة والمقام الرفيع تثميناً منه لدينها ولما لمسه من صلاحها واستقامتها. كانت لها مكانة رفيعة في العلم ورواية الحديث وكانت حريصة على حفظ أحاديث الرسول وقد روت عن النبي صلى الله عليه وآله وعن فاطمة الزهراءعليها السلام وهي من رواة قول: “من كنت مولاه فعلي مولاه” ومن رواة حديث آية التطهير وحديث الثقلين، وقد ذكر المفسّرون في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ إنها نزلت في أم سلمة، لأنها تمنت أن يُكتب الجهاد على النساء لتحصل على هذه الفضيلة السامية وهذا يدل على إيمانها الصادق وتفانيها في سبيل المبدأ. كان من أبرز مواقفها حبها لأهل البيت وانقطاعها إليهم وتفانيها في ولايتهم ونصرتها لهم بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في وقت قلّ فيه الناصر وكثر فيه الخاذل وكانوا عليهم السلاح يقابلونها بالمثل فكانت عندهم في نهاية الرفعة والاكبار. توفيت سنة 61ه، يقع قبرها إلى جوار زوجات النبي صلى الله عليه وآله قرب دار عقيل.
* إبراهيم بن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
هو ابن مارية القبطية التي أهداها حاكم مصر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله. وُلد بالمدينة في ذي الحجة من السنة السابعة للهجرة ومات وهو ابن ثمانية عشر شهراً وقد جاء إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وهو يجود بنفسه فأخذه ووضعه في حجره ثم قال: “يا إبراهيم إنّا لا نُغني عنك من اللَّه شيئاً” ثم ذرفت عيناه ثم قال: “يا إبراهيم لولا أنه أمر حق ووعد صدق وأنَّ آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزناً هو أشدّ من هذا وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يُسخط الرب” وقال: “ادفنوه في البقيع فإن له مرضعاً في الجنة تُتم رضاعه”.
* إسماعيل بن جعفر
هو الولد الأكبر للإمام جعفر الصادق عليه السلام توفي سنة 133ه في حياة أبيه الصادق عليه السلام وإليه تُنسب الإسماعيلية حتى اليوم وهم القائلون بإمامته. كان الإمام الصادق عليه السلام يحبه كثيراً وكان شديد البر عليه وكان قوم من الشيعة يظنّون أنه القائم بعد أبيه والخليفة من بعده إذ كان أكبر اخوته سناً ولميل أبيه إليه وإكرامه له ولما مات دفن في البقيع وقبل دفنه أحضر الإمام الصادق عليه السلام والي المدينة مع جمع من وجهائها وشخصياتها وأشهدهم على موته رفعاً للشبهة وهكذا فقد انصرف عن القول بإمامته من كان يظن ذلك، فلما مات الصادق عليه السلام انتقل فريق منهم إلى القول بإمامة موسى بن جعفر الصادق عليه السلام وافترق الباقون فريقين منهم رجعوا عن حياة إسماعيل وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل لظنهم أن الإمامة كانت في أبيه وأن الابن أحق بمقام الإمامة من الأخ وفريق ثبتوا على حياة إسماعيل وهذان الفريقان يسميان بالإسماعيلية.
* عبد اللَّه بن جعفر
هو أكبر أولاد جعفر بن أبي طالب وهو أول وليد بالحبشة في الإسلام بعد هجرة أبيه وأمه إليها. بايع عبد اللَّه بن جعفر الرسول صلى الله عليه وآله صغيراً وقد تربّى على يديه فقد أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وآله قريباً من ثلاث سنوات حظي فيها بعنايته وبركته ودعائه له بالتوفيق ولازم عمه أمير المؤمنين عليه السلام واختص به فزوجه ابنته الكبرى السيدة زينب عليها السلام وشاركه في الحروب التي خاضها وقد نصّت الروايات على أنه شهد صفين معه وأنه كان خلفه، لما دخل البصرة وقد عُدَّ من أمراء الجيش في معركتي الجمل وصفين. وكان عبد اللَّه بن جعفر موضع ثقة واعتماد من أمير المؤمنين حيث كان يسند إليه بعض المهمات ويوكله انجازها ولما استشهد أمير المؤمنين عليه السلام لم يفارق الحسنين فكان معهما، تابعاً لهما، يلازمهما في كل أمورهما وهكذا لما توجه الحسين عليه السلام إلى كربلاء وجّه اثنين من أبنائه ليستشهدا بين يديه ولم يتمكن من الحضور بنفسه إذ كان معذوراً وكانت زوجته السيدة زينب عليها السلام مع الحسين عليه السلام وهي التي نهضت بالأعباء والمسؤوليات من التكفل بالسبايا ورعاية اليتامى ونشر مظلومية الحسين عليه السلام حتى عادت إلى المدينة. كان عبد اللَّه بن جعفر يُسمى بحر الجود فقد ضرب بكرمه الأمثال وقد فقد أهل المدينة بموته مصدر خير ومنبع عطاء وكان يجسّد في ذلك أخلاق النبوة وكانت وفاته سنة 86هـ.
* عبد اللَّه بن حنظلة
هو أحد شهداء واقعة الحرة التي زحف فيها الجيش الأموي باتجاه المدينة بعد خلع يزيد عنها وتحررها من الربقة الأموية ومبايعة الناس لعبد اللَّه بن حنظلة وتولّيه إدارتها وقيادة أهلها. وعبد اللَّه بن حنظلة هو ابن الشهيد حنظلة بن أبي عامر صاحب الكرامة المعروفة بغسيل الملائكة الذي استشهد في معركة أحد وأخبر عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: “إني رأيت الملائكة تغسِّل حنظلة بن عامر بين السماء والأرض بماء المزن بصحائف الفضة”. ومع أنّ عبد اللَّه بن حنظلة لم ينعم بوجود أبيه ولا حتى برؤيته لكنه فتح عينيه على الحياة في المدينة ونشأ في أجوائها المليئة بالإيمان والجهاد ليجد اسم أبيه لامعاً وكرامته تدوّي في أجواء محافلها. وقد أضاف إلى ما ورثه من شرف أبيه شرفاً في نفسه وفضلاً في دينه فقد كان خيّراً فاضلاً عظيم الشأن، جليس المسجد يحيي فيه الليل مع القراء، يصوم الدهر وما رُئي رافعاً رأسه إلى السماء إخباتاً. تمتّع بشجاعة فائقة وإقدام قل نظيره وكان قائداً مقداماً، قاتل قتالاً مشهوداً يوم الحرة وكان يخاطب أصحابه: ما من ميتة أفضل من ميتة الشهادة وقد ساقها اللَّه إليكم فاغتنموها وبعد أن خاض المعركة بكل شجاعة وذب عن أرض المدينة الطاهرة وأهلها، استقبل الموت بشجاعة الواثق من ربه وكان قد كثرت جراحه فقدّم بنيه الثمانية فقتلوا بين يديه جميعاً ثم كسر جفن سيفه فقاتل حتى استشهد وهو يقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.