السيّد الشهيد عبد الحسين دستغيب قدس سره
بعد أن اتّضح حجم ذنب النفاق وشدّة عذاب المنافق وضرره، فإنّ الواجب الفوريّ بحكم العقل أن يتوب الشخص المنافق من نفاقه. ولأنّ النفاق ناشئ من عدم الإيمان أو ضعفه، فإذاً، يجب أن يندم المنافق على كفره وشركه، ويكون بصدد تحصيل الإيمان والتوحيد بالتفصيل الذي يذكر، ويسعى في سبيل ذلك، ويزيّن نفسه بزينة الصدق والإخلاص، ويوفّق بين ظاهره وباطنه. وإذا تطابق الظاهر والباطن، فلا شكّ في نجاته حتّى ينعم بدرجات الصادقين ومقاماتهم كما يقول تعالى في القرآن الكريم بعد ذكر عذاب المنافقين: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَــعَ الْمُؤْمِنِيـــنَ وَسَـوْفَ يُؤـْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 146).
في هذه الآية ذكــر تعــالى أوصافاً متعدّدة وصعبة للتــوبة من النفاق لا يمكن استئصال جذور النفاق إلّا بها، ما هي؟
* شروط الإقلاع عن النفاق
الأوّل: التوبة: أي الرجوع عن الكفر والشرك إلى الإيمان بالله وعبادته وحده.
الثاني: الإصلاح: أي أنّ التوبة وحدها لا تكفي إذا لم يُصلح الإنسان نفسه وأعماله الفاسدة.
الثالث: الاعتصام: أي أنّ الإصلاح لا ينفع إلّا إذا اعتصم الإنسان بالله، أي إذا اتّبع كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّه لا طريق إلى الله إلّا الذي عيّنه هو سبحانه.
الرابع: الإخلاص: أي الاعتصام بالله إنّما ينفع حين يخلص التائب دينه لله، لأنّ الشرك ظلم لا يغتفر، والمنافق الذي لا يؤدّي هذه الشروط الأربعة التي ذكرت في الآية الشريفة حقّ الأداء، فلن يشفى من مرض النفاق.
* علاج الذنوب
سرّ هذا أنّ الذنوب القلبيّة التي مكانها الذات الإنسانيّة كالنفاق، هي أصعب وعلاجها أكثر تعقيداً من الذنوب التي ترتكب بالجسم كالزنا والسرقة:
1. الذنوب الجسميّة: يكفي للطهارة من الذنوب الجسميّة الحسرة والندم الحقيقيّ، مضافاً إلى إرجاع المال لصاحبه في حال السرقة مثلاً.
وعلاج الكذب تكفي فيه الندامة، والغيبة يشترط فيها أيضاً رضى المغتاب. ومعلوم أنّه كلّما كان تألّم القلب وتحسّره من الذنب أكثر، كلّما ازداد طهارة منه.
2. الذنوب القلبيّة: ولكن في الذنب القلبيّ كالنفاق لا تكفي الحسرة والندامة، ولا تزول بذلك ظلمة القلب إلّا بعد أن يقطع صاحبها المراحل التي ذكرت في الآية الشريفة. هناك يشفى قلبه ويصبح سالماً من هذه الذنوب.
مثلاً: الشخص الذي قضى شطراً من عمره في الرياء، وفجأة، ومض برق من معدن الرحمة الإلهيّة، فإذا به يرى نفسه خاسراً ويعرف عظمة ذنبه ويتأسّف على ما فرّط ويندم بشدّة، هذا الندم وحده لا يطهّره ولا يشفي مرض قلبه، بل الواجب أن يصلح حاله بأن يقتلع جذور شجرة الشرك الخبيثة من قلبه، وينوّر قلبه بنور التوحيد عن طريق التفكير والطلب من الله حتّى يتيقّن أنّه لا مؤثّر ولا مدبّر في عالم الوجود إلّا الذات الإلهيّة جلّ جلاله، وتمام مراتب الوجود خاضعة له. وهذا وحده لا يكفي، بل لا بدّ من الاعتصام بالله عن الطريق الذي قرّره سبحانه ويقترب منه، وهو أداء الواجبات وترك المحرّمات، وعليه، فيجب أن يؤدّي مرّة ثانية كلّ العبادات التي أدّاها رياءً، لأنّها كانت باطلة وفاسدة، وهذا الاعتصام إنّما ينفع فيما إذا أخلص لله في هذه العبادات التي يقضيها وفي سائر العبادات التي يؤدّيها فيما بعد.
* لا مناص من الإخلاص
بناءً عليه، ما لم يخلص، فلن يتخلّص من النفاق ولن يشفى منه. ولكي يصبح مخلصاً، فإنّ عليه، بالإضافة إلى صلاة الجماعة ودفع الزكاة الواجبة والحجّ وغيره ممّا أُمرنا بأدائه علناً، أن يؤدّي سائر العبادات لمدّة خفاءً دون أن يعلم الناس به، وخصوصاً الإنفاقات الماليّة، فعليه أن يؤدّيها بحيث لا يعلم بها إلّا الله، حتّى يذهب من قلبه بالتدريج مقتضى الرياء والتظاهر أمام الناس وسببهما لكي يصل إلى درجة يتساوى لديه مدح الناس له وذمّهم إيّاه، ولا يؤثّر فيه أيّ منهما.
* في إخفاء العمل والإخلاص
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أعظم العبادة أجراً أخفاها”(1)، وورد أنّ “فضل عمل السرّ على عمل الجهر سبعون ضعفاً”(2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “ما بلغ شخص حقيقة الإخلاص حتّى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل لله”(3). فقد كان الإمام السجّاد عليه السلام يعدّ نفسه في مناجاته أصغر وأقلّ من حقيقة عبادة الله، رغم ذلك كان “السجّاد” وصاحب إرث كبير في الدعاء والمناجاة وأنس العبادة.
(*) مقتبس من كتاب: القلب السليم، ج 1، ص101-113.
(1) العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 251.
(2) المصدر نفسه، ج 67، ص 252.
(3) المصدر نفسه، ج 69، ص 294.