حذَّرَ الله المؤمنين من التنازع الذي يؤدي إلى ذهاب القوة والمِنعة، ويؤدي تالياً إلى الفشل والخسران قال تعالى: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”﴿46/ الأنفال﴾.
رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “آفَةُ الْجُنْدِ مُخالَفَةُ الْقادَةِ”.
الجُنْدُ: الجَيْشُ، وهو جماعةُ الناس يسيرون للحرب، وسُمي بذلك لأنه يَجِيش بعضُه على بعض لكثرة عددهم، وقيل: الجُندُ هم أَتباعٌ تحت إمرة السلطان. وقيل: الجُندُ: الأعوانُ والأنصار. وقيلَ: الجُندُ كلُّ صِنْفٍ من الخلق مُسَخَّرٍ لغاية. وقد ذُكِرَ لفظ (جند وجنود) كثيراً في القرآن الكريم. إذ وصل عدد مواضعه فيه (29) موضعاً. وقد جاء فيه على خمسة أوجه:
الأول: الملائكة، الذين سَخَّرهم الله لإدارة الكون بأمره تعالى، قال تعالى: “…وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ…”﴿31/ المُدَّثِّر﴾، وقال تعالى: “وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا”﴿7/ الفتح﴾ وهم أصناف كثيرة كل صِنفٍ منهم سَخَّره الله للقيام بمهمة خاصة، وهم ذووا رُتَبٍ عديدة، قال تعالى: “وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ”﴿164/ الصافات﴾. فمنهم حَمَلَةُ العرش، وهم الملائكة العِظام، وكل واحد منهم مسؤول عن حشد من الملائكة الأقل رتبة منه يعملون تحت إمرته، وكُلٌ مطيع لله يُجري إرادته ويُنَفِّذ مشيئته، قال تعالى: <“بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ﴿26﴾لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ”﴿27/ الأنبياء﴾. وكُلٌ معصوم عن الخطأ والنسيان، قال تعالى: *“… لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ”﴿6/ التحريم﴾.
الثاني: الرُّسُلُ وأتباعهم وأنصارهم من المؤمنين، فهم جميعاً جنَّدوا أنفسهم لله، يأتمرون بأمره، ويحققون مشيئته في الأرض، ويقيمون المجتمع الرباني فيها، ويواجهون الطغيان والظلم والفساد، وهم منصورون لا محالة، وانتصارهم سُنَّة ربانية لا تتخلف، قال تعالى: “وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ”﴿173/ الصافات﴾.
الثالث: أتباع الشياطين وقرناؤهم من الجِنِّ والإنس، وقد يراد بهم ذرية إبليس أيضا كما في بعض التفاسير، قال تعالى: “وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ”﴿95/ الشعراء﴾.
الرابع: الجُموع المُجَيَّشة للحرب، قال تعالى: “ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ”﴿37/ النمل﴾. ومعنى: الجنود التي لا قِبَلَ لهم بها، الجنود التي سَخَّرها الله لسليمان من الجن والطير وهي غير مألوفة للبشر، ولا طاقة لهم بمواجهتها وقتالها.
الخامس: الأنصار الذين يعتمد عليهم الأشرار والطُّغاة والظالمون، قال تعالى: “قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا”﴿75/ مريم﴾.
وكما تلاحظ قارئي الكريم فإن الجُند من أي نوع كانوا يجب أن يكونوا مطيعين لمن يقودهم ويوظِّفهم لأداء المهمات التي جُنِّدوا لها، فإن كانت منهم معصية لأمر القائد، أو تَخلُّف عن أداء مهماتهم فسينتهي بهم الحال إلى الفشل الذريع ولن يكون منهم أي إنجاز، وهذا معلوم بالضرورة في جميع الجيوش والجنود المجَنَّدة من الموظفين في أي دولة من الدول.
ولذلك وجَب أن يكون الملائكة معصومين، لا تصدر منهم معصية ولا مخالفة لأمر الله تعالى، وهذا ما يُفَسِّر دقة حركة الكون واتساقها في نظام شديد التعقيد، ولنا أن نتخيل ماذا يمكن أن يحدث له لو كان الملائكة مخيرين كالإنسان، فهو وحده الذي يخالف أمر الله ولذلك يكون منه الفساد والإفساد.
ولذلك شَدَّدَ الله في القرآن الكريم الأمر بوجوب الطاعة له ولرسوله ولأولي الأمر، قال تعالى: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ”﴿132/ آل عمران﴾. فالطاعة تؤدي الى الرحمة، والرحمة هنا تعني فوزهم وانتصارهم وبلوغ غاياتهم وتحقيق أهدافهم. وما حدث في معركة أُحُدٍ من هزيمة للمسلمين بعد انتصار مُحَقَّق في بدايتها شاهدٌ على أن المعصية لأمر الرسول كانت السبب الرئيس لذلك.
وحذَّرَ الله المؤمنين من التنازع الذي يؤدي إلى ذهاب القوة والمِنعة، ويؤدي تالياً إلى الفشل والخسران قال تعالى: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”﴿46/ الأنفال﴾.
ولطالما شكا الإمام أمير المؤمنين (ع) من عدم طاعة أصحابه لأوامره، وتشتت أهوائهم، وتفرقهم عن حقهم، فها هو ذا يقول: “مُنِيتُ بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ، وَلا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، لاَ أَبَا لَكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ؟ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ، وَلاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ؟! أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً، وَأُنادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً، فَلاَ تَسْمَعُونَ لي قَوْلاً، وَلاَ تُطِيعُون لِي أَمْراً، حَتَّى تَكَشَّفَ الأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَساءَةِ، فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ، وَلاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الأَسَرِّ، وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ الْنِّضْوِ الأَدْبَرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)”
السيد بلال وهبي