لقد بلّغ الإمام الخميني قولاً ـ ومارس عملياْ جميع الاهداف والتطلعات وكل ما كان ينبغي له قوله أو فعله، بل سخر على الصعيد العملي كل وجوده من اجل تحقيق هذه الاهداف. والآن ـ وعلى اعتاب منتصف خرداد عام 1368هـ. (اوائل حزيران 1989م) ـ اعدّ الإمام نفسه للقاء عزيز افنى عمره لكسب رضاه. ولم يحن قامته لغيره ولم تبك عيناه لسواه، وان كل اناشيده العرفانية كانت تحكي ألم فراق المحبوب وبيان تشوقه للحظة وصاله. وها قد زفت الآن لحظة الوصال المؤنسة له والعصيبة لانصاره ومحبيه، فقد كتب في وصيته يقول: بفؤاد وادع وقلب مطمئن ونفس مبتهجة وضمير يؤمل فضل الله، استودعكم ايها الاخوة والاخوات أرحل الي مقري الابدي. وأنا بحاجة مبرمة الي صالح دعائكم. واسأل الله الرحمن الرحيم أن يقبل عذري في نقص الخدمة وفي القصور والتقصير. وارجومن ابناء الشعب أن يقبلوا عذري في كل نقص وقصور وتقصير. وأن يسيروا قدماً بعزم ومضاء.
وحينما تقف الجماهير المحبة للإمام جنب ضريحه، فإنها تتمتم بهذه العبارات المتواضعة لتجيب سماحته قائلة: ايّها الإمام! عن ايّ قصور أو تقصير تتحدث؟ فعلى حدِّ علمنا وعلم آبائنا، وطبقاً لما رأينا وسمعنا، انك كنت صلاحاً ونوراً وطهراً خالصاً اشهد انك قد اقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وجاهدت في الله حق جهاده
الغريب ان الإمام الخميني قال في احدى قصائده التي نظمها قبل سنوات من وفاته:
تمر السنون وتتوالى الحوادث وانا انتظر الفرج في منتصف خرداد
وتتحدث الابيات التي سبقت هذا البيت عن ألم الهجران والأمل بتحقق لحظة الوصال. وها هي لحظة وصال المحبوب قد حانت في النصف من خرداد عام 1989م.
قبل ايام معدودة من رحيله، علمت الجماهير بمرض الإمام وما اجري له من عملية جراحية. ان الوضع الروحي للجماهير في تلك الايام يعجز الانسان حقاً عن وصفه، فمراسم الدعاء والتوسل تجري في كل حدب وصوب، في المنازل والحسينيات والتكايا والمساجد وفي مختلف انحاء البلاد، بل في كل مكانٍ من العالم وجد فيه محب للامام. ولعلك في تلك الايام لاتكاد ترى احداً بمقدوره خفاء آثار الحزن والغم عن محياه. العيون باكية، والقلوب متعلقة بجماران.. الساعات تمرّ ببطء شديد، وإيران كلها تلهج بالدعاء. الفريق الطبي المشرف على علاج الإمام استنفد ما في وسعه، غير ان ارادة الله تدفع المقادير باتجاه آخر: يا أيّتُهَا النَّفسُ المُطمَئِنَّة * الرجِعي الى رَبِّكِ راضِيَةً مَّرضِيَّةً .
في تمام الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقة قبيل منتصف الليل، من الثالث عشر من خرداد 1368 (حزيران 1989م) حانت لحظة الوصال. وتوقف القلب الذي اضاء قلوب الملايين بنور الله والمعنوية.
في الأيام التي لازم فيها سماحته فراش المستشفى. وضع محبوالامام عدسة خفة تصور الإمام في تلك الايام، واثناء
العملية الجراحية، ولحظة التحاقة بالرفيق الاعلى. وحينما بثّ التلفزيون الايراني جانباً من حالات الإمام المعنوية
والاطمئنان الذي كان عليه، كادت القلوب تتفجر من الشوق، بما يعجز ايّ وصف عن التعبير عنه.
كانت الشفتان في ذكر دائم، وفي آخر ليلة من عمره الشريف وبينما كانت عدّة حقن من المواد المغذية موصولة
بذراعيه، قام ليلتها يؤدي نافلة الليل ويتلوالقرآن. بدت على محياه في الساعات الاخيرة طمأنينة وهدوء ملكوتيان
وكان يتمتم بصورة دائمة بالشهادة بوحدانية الله ويقر باعتقاد برسالة النبي الاكرم صَلَّي اللهُ عَلَيهِ وٰاله حتى عرجت روحه العظيمة الي الملكوت الاعلى. فكانت الراحلة التي خلّفت في القلوب ناراً لا تخمد.
ولما اُذيع خبر رحيل الإمام، حدث ما يشبه الزلزال العظيم، فتفجرت الاحزان وانفجرت العيون بالدموع في إيران وفي كل مكان وجد فيه من عرف الامام ونهل من فيض هدايته. وراح المحبون يلطمون الرؤوس والوجوه، بما تعجز الاقلام، بل يعجز أيّ بيان عن تصوير ابعاد ما حصل، وما تدفق من امواج الاحاسيس والمشاعر المتلاطمة.
ويحق للشعب الايراني وللمسلمين الثوريين، كل هذا النحيب والضجة التي لم يسجل التاريخ نموذجاً يضاهيها بالشدّة والعظمة، إذ انهم فقدوا عزيزاً اعاد لهم عزتهم المهدورة، وكفّ ايدي الملوك الظالمين والناهبين الأميركان والغربيين عن اراضيهم، وأحيا الاسلام وحقق للمسلمين المجد والعزّة، واقام الجمهورية الإسلاميّة، ووقف بوجه القوى الشيطانية بثبات ليواجه مئات المؤامرات التي استهدفت اسقاط النظام وقلب نظام الحكم وإثارة الفتن في الداخل والخارج طوال عشرة اعوام. كذلك قاد الدفاع المقدس علي مدى ثمانية اعوام في جبهة واجه فيها عدواً كان يحظي بشكل صارخ بدعم القوى الشرقية والغربية الكبرى.
لقد فقدت الجماهير قائدها المحبوب ومرجعها الديني والمنادي بالاسلام الاصيل.. ربما يقف أولئك العاجزون عن درك واستيعاب هذه المفاهيم، حيارى وهم يشاهدون حال الجماهير ـ التي عرضتها الافلام التلفزيونيةـ اثناء مراسم توديع وتشييع ودفن الجثمان الطاهر للإمام الخميني، ولعلهم يصابون بالدهشة اذا ما سمعوا بوفاة العشرات الذين لم يتمكنوا من تحمل ثقل الصدمة، فتوقفت قلوبهم عن العمل، أو بسقوط العشرات الآخرين مغشياً عليهم من شدّة الحزن وتناقلتهم الايدي فوق رؤوس امواجٍ هائلةٍ من البشر لينقلوا الى المستشفيات.. الى غير ذلك …
بيد أن أولئك الذين يعرفون معنى الحب والذين امتحنت قلوبهم لذته، يرون كل ذلك امراً طبيعياً، والحق ان الجماهير الإيرانية كانت محبة للإمام الخميني، وما أجمل الشعار الذي رفع في الذكرى السنوية لوفاته حب الخميني حب لكلّ ما هو جميل.
في الرابع من حزيران 1989م، عقد مجلس خبراء القيادة جلسته الرسمية، وبعد ان تليت وصية الإمام الخميني من قبل آية الله الخامنئي ـ وقد استغرق قراءتها ساعتين ونصف الساعة ـ ابتدأ البحث والتشاور حول تعيين من يحلُّ محل الإمام الخميني ليكون قائداً للثورة الإسلاميّة، وبعد ساعات من البحث والنقاش تمّ وبالاجماع ترشيح آية الله السيد علي الخامنئي (رئيس الجمهورية آنذاك) لتسنم هذا الموقع الخطير. وآية الله الخامنئي هو احد طلاب الإمام الخميني ـ سلام الله عليه ـ ومن الوجوه البارزة في الثورة الإسلاميّة، ومن انصار انتفاضة الخامس من حزيران، وقف جنباً الي جنب سائر انصار الثورة حاملاً روحه في راحتيه طوال فترة نهضة الإمام وفي جميع الحوادث التي شهدتها الثورة.
سنوات عديدة والغربيون وعملاؤهم في الداخل كانوا يؤملون انفسهم بأيام ما بعد رحيل الإمام الخميني، بعد أن يئسوا من الحاق الهزيمة بالإمام في حياته. لكنَّ وعي الشعب الإيراني وسرعة مجلس خبراء القيادة في اختيار الشخص المناسب للقيادة، ودعم انصار الإمام لذلك، بدد آمال اعداء الثورة، ولم يخب املهم في ان تكون وفاة الإمام نهاية نهجه فحسب، بل ان عصر الإمام الخميني ـ في الحقيقةـ ابتدأ على نطاقٍ أوسع من السابق بعد وفاته. وهل يموت الفكر والصلاح والمعنوية والحقيقة؟
في يوم وليلة الخامس من حزيران 1989م تجمع الملايين من ابناء طهران والمعزون من ابناء المدن والقرى،في مصلى طهران الكبير ليلقوا النظرة الاخيرة على الجثمان الطاهر لرجل اعاد بنهضته وثورته سيادة القيم والكرامة في عصر الظلم الاسود، وفجر في الدنيا نهضة التوجه الي الله والعودة الي الفطرة الانسانية.
لم يكن ثمة ايّ مظهر من مظاهر المراسم التشريفاتية عديمة الروح. كل شيء كان جماهيرياً تعبوياً وعشقياً. وكان جثمان الإمام الموشح بالقماش الاخضر موضوعاً على دكة عالية يضيء كدرّة نفيسة ويتحلق حوله الملايين من اصحاب العزاء. وكان كل واحدٍ من ذلك الجمع الغفير يتمتم بحزن مع إمامه الفقيد ويذرف الدموع. امتلأ المكان والطرق السريعة المؤدية الى المصلى بالجماهير الموشحة بالسواد. ورفعت اعلام العزاء على الابواب والجدران، وانطلق صوت القرآن يدوي من مآذن المساجد والمراكز والدوائر والمنازل. وما ان هبط الليل حتى أوقدت الشموع تذكيراً بالمشعل الذي أوقده الإمام، واضاءت منطقة المصلى وما حولها. تحلقت العوائل المفجوعة حول شموعها وهي ترنوالي المرتفع النوراني الذي رقد فيه امامهم المحبوب.
لقد احالت صرخات ياحسين التي كانت تنطلق من التعبويين الذين شعروا باليتم، المكان الى عاشوراء جديدة.
هل حقاً ان هذا الصوت الرباني لم يعد ينطلق من حسينية جمران؟ … بقيت الجموع المفجوعة تندب فقيدها حتى
الصباح.
وفي الساعات الاولى من يوم السادس من حزيران، ادّت الملايين الصلاة على جثمانه الطاهر بامامة آية الله العظمى الكلبايكاني.
ان عظمة الموقف الحماسي الذي جسدته الحشود المليونية التي هبت لاستقبال الإمام الخميني في الثاني عشر
من بهمن عام 1357ش (الاول من شباط عام 1979م)، وتكراره ثانية وبنحواكثر ابهة وعظمة في مراسم تشييع
جثمان الإمام الطاهر؛ لهي حقاً من عجائب التاريخ. لقد قدرت وكالات الانباء العالمية الرسمية عام 1979 عدد
الذين جاءوا لاستقبال الإمام بستة ملايين شخص. اما الذين شاركوا في مراسم التشييع فقد قدروا بتسعة ملايين شخص. هذا في وقت تضافرت جهود البلدان الغربية والشرقية خلال الاحدي عشرة سنة من قيادة الإمام في تصعيد عدائها للجمهورية الإسلاميّة وفُرض عليها حرب الثماني سنوات ومئات المؤامرات والدسائس الاخرى، وجرعوا ابناء الشعب الايراني معاناة ومعضلات كثيرة، وأفقدوه اعزة لا يحصون في هذا الطريق. ومن الطبيعي كان ينبغي ان يتعب ابناء الشعب ويفتر حماسهم تجاه ثورتهم، إلاّ ان ذلك لم يتحقق مطلقاً. ان الجيل الذي تربى في مدرسة الإمام الخميني كان قد آمن تماماً بمقولة الإمام هذه التي يقول فيها: ان القدرة علي تحمل المعاناة والآلام والتضحيات والحرمان، تتناسب مع عظمة الهدف وقيمته وسموه.
بدأت مراسم التشييع، فانطلقت الجموع الغفيرة من مصلى طهران الى مرقد الإمام جوار مقبرة جنة الزهراء (مزار الشهداء)، وضجّت الجموع اطفالاً ونساءً ورجالاً وكأن أرواحهم تزهق من ابدانهم. مرت ساعات دون ان يتمكن الجمع من الحركة، بسبب تدفق الاحاسيس والمشاعر التي يصعب التحكم بها. مما اضطر المسؤولون الي حمل الجثمان الطاهر بطائرةٍ سمتية ليُنقل الى مثواه الأخير.
ومع انهم كانوا قد وضعوا حواجز عالية للحيولة دون ازدحام المعزّين في محل الدفن، الا أنّه ما ان حطت الطائرة
على الارض، حتى اضطرب كل شيء. فقد تأججت نار الفراق في القلوب، وفجر الاحساس بالفراق الحزن والغضب الي درجة جعلت كل جهود المكلفين باتمام عملية الدفن تذهب سُدى. وكان التلفزيون ينقل الوقائع في بث حيّ. وبصعوبة بالغة تمّ استرداد الجثمان من ايدي الجماهير، واعيد الى الطائرة وحمل من جديد نحوحسينية جماران.
إنَّ أُولئك القابعين في الغرب، أو في ظل رؤيتهم الغربية، ممن يرون الحياة عبارة عن نافذة تطل على المال واللذة، وقد نسوا في صخب الحياة الآلية الاصالة والحب الحقيقي والقيم، لا يمكنهم ان يدركوا ابعاد ما يشاهدونه من صور تدفين جثمان الإمام الطاهر.
فلوسمح التضليل والتحريف ونعيق الاعلام المسموم لاعداء الحقيقة، بأن يطلع هؤلاء علي وصية الامام فحسب، أو خطاب من خطاباته، بنحويتجردون فيه عن الخلفيات المسبقة، وبوحي من الانصاف والفطرة والوجدان، فانهم لا شك سوف يغيرون نظرتهم.
بعد ان تعذر اتمام مراسم الدفن نتيجة لتدفق مشاعر المعزين اعلنت الاذاعة وعبر بيانٍ رسمي عن تأجيل المراسم الى اشعار آخر. غير ان المسؤولين كانوا على يقين من ان مرور الوقت سيضاعف اعداد الوافدين من عشاق الإمام من المدن والقرى البعيدة، لذا اضطروا الى اتمام الدفن في عصر ذلك اليوم متحملين اشد المعاناة والصعوبات البالغة. وقد نقلت بعض وكالات الانباء جانباً من تلك المراسم.
ان عشرات المجلدات التي ضمت القصائد الشعرية التي نظمها الايرانيون وغير الايرانيين، والتي تمّ جمعها ونشرها
فيما بعد، تعدُّ بحدِّ ذاتها تعبيراً عن طبيعة العواطف الجماهيرية التي تفجرت في تلك الايام. وكان من بينها ما عُدَّ من امهات القصائد ومن اروع الملاحم الشعرية في الادب الفارسي.
ومن يومها اخذت تقام مراسم العزاء في الرابع من حزيران من كل عام ـ حتي تاريخ كتابة هذه االسطورـ
بالعظمة والابهة نفسها التي اقيمت بها في السنة الاولي’.
وبهمّة عشاق الإمام تمّ تشييد مبنى حول ضريحه المقدس بسرعة لاتصدق، كتعبير عن نوعٍ من وفاء الامةالإسلاميّة لهذا القائد المعنوي العظيم، وترجمة لخلوده الابدي، واضحى مزاره الشريف ـ خصوصاً في المناسبات الدينية ـ ملتقى احبائه وزواره من انحاء إيران ومن سائر البلدان. وراحت الراية الحمراء التي ترفرف فوق قبة ضريحه تعيد الي الاذهان الراية الحمراء لقبة سيد الشهداء الحسين بن علي عليْه السّلام وتذكر بان النهضة العاشورائية للامام الخميني ايضاً ـ كما هو حال الثورة الحسينيةـ ستدفق دماء العزّة والإنسانية والاستقامة على دين الله في عروق المسلمين الغيارى علي مرّ التاريخ.
وهكذا اضحي رحيل الامام، كما كانت حياته، منشأ للصحوة والنهضة، وخلد نهجه وذكراه. لأنه كان حقيقة، والحقيقة خالدة ما خلد الدهر.
لقد كان سماحته تجليّاً من تجليات الكوثر. وان كوثر الولاية متدفق ابداً علي مر العصور والازمان؛ وستبقى حكاية هذا العبد الصالح خالدة خلود الدهر.
والسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً.