الشيخ د. أكرم بركات
إنَّ قضيّة عيد الأضحى ترتبط بالحوار الذي جرى بين الله تعالى وملائكته: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30). فما هي قصّة هذا الحوار؟ وما هي علاقته بالنبيّ إبراهيم عليه السلام وعيد الأضحى؟
• ﴿أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
إنّ الملائكة، بسبب علم خاصّ أطلعهم الله تعالى عليه، أو بسبب تجربة اختياريّة سابقة للإنسان كان الإفساد والسفك نتيجتها، قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾. ولكنّ الله تعالى لم يجب الملائكة بأنّ ذلك لن يحدث، بل أجابهم بطرح مشكلةٍ في نظرتهم. فإنَّهم كانوا ينظرون إلى جزء من لوحة الإنسان، ولم يعلموا بكلِّ اللوحة، فأراد الله تعالى أن يُظهر الجزء الآخر من اللوحة الإنسانيّة، وهو الجزء المشرق المثير؛ لذا كان جوابه المبدئيّ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
وأتبعه بإجراء تمهيديّ: ﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 31).
التفت الملائكة إلى نقص معرفتهم أمام الكمال الإلهيّ المطلق، فقالوا: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ (البقرة: 32). ترى ما هي هذه الأسماء التي تمثّل الصفحات المضيئة المشرقة المنيرة المشعّة من مستقبل البشريّة؟
• أبو الأنبياء عليهم السلام
قال تعالى: ﴿يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ (البقرة: 33)، فإذا بآدم ينطق بأسماء حجج الله في أرضه؛ فكان أول اسم أنبأ به اسم سيّد بني آدم “محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم”، وعقّبه بأسماء أهل بيته وأسماء الأنبياء عليهم السلام، وكان على رأسهم “إبراهيم عليه السلام” أبو الأنبياء وبطل عيد الأضحى.
وهبط آدم عليه السلام إلى الأرض ليرشده جبرائيل –كما ورد في بعض الروايات- إلى موقع الكعبة التي دحا الله الأرض من تحتها ليبني الكعبة؛ أوّل بناء إنسانيّ.
وتمرّ الأيام ويرسل الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام رسولاً إلى الناس في وسط مجتمع وثنيّ لا يُعبد الله فيه.
• منهج عقليّ
برز في مسيرة النبيّ إبراهيم عليه السلام منهجه العقليّ، فهو أراد أن يزعزع عقيدة قومه المنحرفة عبر تساؤلات نقلتهم من الأرض إلى السماء، بهدف نقلهم إلى ربّ الأرض والسماء: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 76 – 79).
وقد برز هذا المنهج العقليّ الذي أراد النبيّ إبراهيم عليه السلام من خلاله أن يغلق أيّ ثغرة في البناء العقائديّ الإنسانيّ، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 260). فأخذ –كما ورد في الروايات- طاووساً ونسراً وديكاً وبطّاً وخلط لحومها وعظامها ونشرها على عشرة جبال، ودعاها أن تأتي إليه بإذن الله تعالى، فإذا باللحوم والعظام تلتحم لتعود الطيور كما كانت، وتأتي سعياً بين يدي النبيّ إبراهيم عليه السلام.
• ﴿أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾
كما ظهرت في مسيرته عليه السلام ميزة العاطفة، التي بانت بشكل لافت في حوار إبراهيم عليه السلام مع ملائكة الله الذين أتوا إليه ليخبروه أنَّ الله تعالى أرسلهم لإنزال العذاب على قوم لوط الفاسدين، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ (هود: 74 – 75).
• نجّني من النار
أراد الله تعالى أن يبتلي إبراهيم عليه السلام ببلاءات شديدة يُظهر من خلالها جوهره الإنسانيّ، فابتلاه بتلك النار العظيمة حينما وضعه المشركون في منجنيق ورموه بها. قال الإمام الصادق عليه السلام -في ما ورد عنه-: “ولمّا أُلقي إبراهيم عليه السلام في النار تلقَّاه جبرائيل عليه السلام في الهواء، وهو يهوي إلى النار، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا، وقال: يا الله، يا أحد يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، نجِّني من النار برحمتك، فأوحى الله تعالى إلى النار: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء: 69)”(1).
• هل من أنيس؟
مرّةً أخرى، أراد الله تعالى أن يبتليه ببلاء عظيم يتعلّق بعقله وقلبه، فيما كان عمره عليه السلام 120 عاماً، وعمر زوجته هاجر 90 عاماً، فإذا بإذن الله وأمره، يُرزق منها ولداً سمّاه إسماعيل، وقد تعلّق قلبه به بشدّة.
ثمّ أمره سبحانه أن يسكنه مع أمّه في وادٍ سوَّدت الشمس جباله الصخريّة المحيطة به، لا زرع ولا ماء ولا ناس فيه. مع ذلك، أمره الله تعالى أن يتركهما فيه. سألته هاجر: “إلى من تكلنا؟”، فقال عليه السلام: “أكِلُكم إلى الله تعالى”.
عطش إسماعيل ولم يكن من ماء، فصعدت هاجر إلى جبل الصفا تنادي: “هل بالوادي من أنيس؟” فلم يجبها أحد، فذهبت إلى جبل المروة ونادت: “هل بالوادي من أنيس؟” فلم يجبها أحد، حتّى فعلت ذلك سبعاً ولم يجبها أحد، ولكنّ الله تعالى كان يسمعها، وأجابها، لكن لا بلفظٍ خَلَقَه، بل بماءٍ فجّره تحت قدميّ إسماعيل عليه السلام، فكان ماء زمزم، وهو خير ماء على وجه الأرض.
عندها لحقت الطيور الماء، ولاحظ العرب مسارها، فاستوطنوا الوادي الذي باركه الله. وكبر إسماعيل بين العرب، وقلب أبيه الكبير يدعوه كلّ مدّة إلى زيارة حبيبه وفلذة كبده إسماعيل، وكان كلّما زاره، تعلّق قلبه به أكثر، وكيف لا يكون ذلك وقد ورد أنّه كان يظهر من جبين إسماعيل نور خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم!
• ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾
حان وقت الاختبار العظيم، حينما أمر الله نبيّه إبراهيم عليه السلام أن يرفع قواعد البيت مع ولده إسماعيل: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة: 127). أراد الله تعالى أن يبتلي العائلة الإبراهيميّة، فأمره أن يبدأ مع هاجر وإسماعيل رحلة الحجّ. المقصد الأوّل كان عرفة، وبعد مغرب الشمس، أمرهم الله أن يزدلفوا إلى وادي “المشعر”. وبعدها جاءه الوحي في الرؤيا يأمره بذبح ولده وحبيبه وقرّة عينه إسماعيل عليه السلام.
لم يجادل إبراهيم عليه السلام، بل صرّح لولده: ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ (الصافات: 102)، وإذا بولده المؤمن التقيّ البارّ الوفيّ يجيبه: ﴿يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات: 102).
• تضحية عائلة
أمر إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر أن تطوف بالبيت العتيق، لعلّ ذلك حتّى لا ترى موقف الذبح المقدَّس، فيرقّ قلبها وتتألّم.
وسار الأب مع ولده نحو المذبح المقدَّس في “مِنى”، وحاول إبليس أن يقف عقبةً أمام العائلة، فرماه إبراهيم عليه السلام بسبع حصوات، ورماه إسماعيل بسبع حصوات أيضاً، فلحق إبليس بهاجر وهي بجوار الكعبة وقال لها: “يا أمة الله، من هذا الشيخ الذي رأيته في موضع كذا، وصفتُه كذا وكذا؟”.
قالت: “ذاك بَعلي”، قال اللعين: “فرأيت معه وصيفاً -أي خادماً- صفته كذا وكذا”، قالت: “ذاك ابني”، قال: “فإنّي رأيته وقد أضجعه وأخذ المِدْية ليذبحه”، فنهرته هاجر وقالت: “كذبت أيّها الرجل، إنّ إبراهيم أرحم الناس، فكيف بابنه يذبحه؟!” قال اللعين: “فوربِّ السماء والأرض، وربّ هذا البيت، لقد رأيته أضجعه وأخذ المدية ليذبحه”، قالت: “ولِمَ؟” قال: “زعم أنّ ربّه أمره بذلك”، قالت: “فحقٌّ له أن يطيع ربَّه”، ورمته بسبع حصوات أيضاً(2). فكانت التضحية تضحية عائلة، أب وابن وأمّ.
• الاختبار العظيم
وفي ذاك المذبح أخذ إبراهيم عليه السلام المِدْية وقال لولده: “نِعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله”(3)، ثمّ فرش له عند تلك الجمرة، ووضع المِدْية على رقبته.
هنا قد يقول قائل: إنّ ابراهيم عليه السلام بمعرفته بربّه يعلم أنّه لن يصل به إلى مرحلة الذبح الكامل، لذا أكمل المسير، وفي آخر لحظاته، نودي: “قف يا إبراهيم، قد صدّقت الرؤيا”. ولكن واقع قصّة الفداء لم يكن كذلك، بل ورد أنَّ إبراهيم عليه السلام جرَّ المديَة وشرع بالذبح، وفيما هو يجرّها أمر الله جبرائيل عليه السلام، فقلب المِدْية على ظهرها، عندها نودي: ﴿أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ (الصافات: 104 – 105).
عندها استحقّ إبراهيم عليه السلام أن يكون في موقع مباهاة الله لملائكته، واستحق أن يصعد على تلك الصخرة ليؤذِّن في الناس بالحجّ.
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (النحل: 120).
1. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 92، ص 189.
2. الشيخ الكليني، الكافي، ج 4، ص 208.
3. العلامة المجلسي، مصدر سابق، ج 12، ص 136.