أما كتاب الله العظيم – الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – فقد أعلن فضل الإمام الحسين في إطار أهل البيت ( ع ) وله في كتاب الله غنى عن مدح المادحين ووصف الواصفين ، وهذه بعض الآيات الناطقة في فضلهم .
آية التطهير :
قال تعالى : ” إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ” (1) ولابد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن هذه الآية .
أ – من هم أهل البيت ؟
وأجمع المفسرون وثقاة الرواة (2) أن أهل البيت هم الخمسة أصحاب الكساء وهم : سيد الكائنات الرسول ( ص ) وصنوه الجاري مجرى نفسه أمير المؤمنين ( ع ) وبضعته الطاهرة عديلة مريم بنت عمران سيدة النساء فاطمة الزهراء التي يرض الله لرضاها ويغضب لغضبها ، وريحانتاه من الدنيا سبطاه الشهيدان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، ولم يشاركهم أحد من الصحابة وغيرهم في هذه الآية ، ويدل على هذا الاختصاص ما يلي :
أولا – إن أم سلمة قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ، وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجللهم رسول الله ( ص ) بكساء كان عليه ثم قال : ” اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا ” يكرر ذلك ، وأم سلمة تسمع وترى فقالت : وأنا معكم يا رسول الله ، ورفعت الكساء لتدخل فجذبه منها ، وقال لها : ” انك على خير ” وتواترت الصحاح بذلك (3) ، وهي حسب رواية أم سلمة تدل – بوضوح – على الحصر بهم ، وامتيازهم عن غيرهم بهذه المأثرة المشرفة .
ثانيا – إن الرسول ( ص ) قد سلك كل مسلك في اعلان اختصاص الآية بهم ، فقد روى ابن عباس قال : ” شهدت رسول الله ( ص ) سبعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ” إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ” الصلاة رحمكم الله ، كل يوم خمس مرات ” (4) ، وروى أنس بن مالك أن النبي ( ص ) كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول : الصلاة يا أهل البيت ” إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ” (5)
وروى أبو برزة قال : صليت مع رسول الله ( ص ) سبعة أشهر فإذا خرج من بيته أتى باب فاطمة ( ع ) فقال : السلام عليكم ” إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ” (6) .
وقد أكد النبي ( ص ) اختصاص الآية بأهل بيته ونفاها عن غيرهم ارشادا للأمة وإلزاما لها باتباعهم وتسليم قيادتها لهم .
ثالثا – احتجاج العترة الطاهرة على اختصاص الآية بهم ، فقد قال الإمام الحسن الزكي ( ع ) في بعض خطبه :
” وأنا من أهل البيت الذي كان جبرئيل ينزل إلينا ، ويصعد من عندنا ، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ” (7) وتواترت الاخبار من طرق العترة الطاهرة معلنة اختصاص الآية بالخمسة من أصحاب الكساء وعدم تناولها لغيرهم من أسرة النبي .
ب – خروج نساء النبي :
وليس النساء النبي ( ص ) أي نصيب في هذه الآية فقد خرجن عنها موضوعا أو حكما – كما يقول علماء الأصول – وللتدليل على ذلك نذكر ما يلي :
1 – إن الأهل – في اللغة – موضوع لعشيرة الرجل وذوي قرباه (8) ولا يشمل الزوجة ، وأكد هذا المعنى زيد بن أرقم حينما سئل عن أهل بيت النبي ( ص ) هل يشمل زوجاته ؟ فأنكر ذلك ، وقال :
” لا – وأيم الله – إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، . . . أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده ” (9) .
2 – إنا لو سلمنا أن الأهل يشمل الزوجة ويطلق عليها فلابد من تخصيصه بالاخبار المتقدمة فإنها توجب التخصيص من دون شك ، فقد بلغت حد التواتر اللفظي أو المعنوي .
ج – مزاعم عكرمة ومقاتل :
وهناك جماعة من صنائع بني أمية ودعاة الخوارج حاولوا صرف الآية عن العترة الطاهرة ، واختصاصها بنساء النبي ( ص ) متمسكين بسياق الآية ومن الذاهبين إلى ذلك عكرمة ، ومقاتل بن سليمان ، وكان عكرمة من أشد الناس تحاملا على أصحاب الكساء ، وكان ينادي بذلك في السوق (10) وبلغ من اصراره وعناده أنه كان يقول : ” من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي ” (11) ، ومن الطبيعي أن نداءه في السوق ، وعرضه للمباهلة انما يدل على بغضه الشديد للعترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم ، ولابد لنا من النظر في شؤون عكرمة ومقاتل حتى تبين اندفاعهما لما زعماه .
عكرمة في الميزان :
عكرمة البربري هو أبو عبد الله المدني أصله من البربر كان مولى للحصين ابن أبي الحر العنبري فوهبه لابن عباس لما ولي البصرة من قبل الامام أمير المؤمنين ( ع ) وبقى رقا حتى توفي ابن عباس فباعه علي بن عبد الله ثم استرده (12) وقد جرح في عقيدته واتهم في سلوكه ، فقد ذكر المترجمون له ما يلي :
1 – إنه كان من الخوارج (13) وقد وقف على باب المسجد فقال ما فيه إلا كافر (14) لان الخوارج ذهبوا إلى كفر المسلمين ، أما موقفهم من الامام أمير المؤمنين فمعروف بالنصب والعداء .
2 – إنه عرف بالكذب ، وعدم الحريجة منه ، وقد اشتهر بهذه الظاهرة فعن ابن المسيب أنه قال لمولاه برد : ” لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس ” (15) ، وعن عثمان بن مرة أنه قال للقاسم : إن عكرمة حدثنا عن ابن عباس كذا ، فقال القاسم : يا بن أخي إن عكرمة كذاب يحدث غدوة حديثا يخالفه عشيا (16) .
ومع اتهامه بالكذب لا يمكن التعويل على أي رواية من رواياته فان اقتراف الكذب من أظهر الأسباب التي توجب القدح في الراوي .
3 – إنه كان فاسقا يسمع الغناء ، ويلعب بالنرد ، ويتهاون في الصلاة وكان خفيف العقل (17) .
4 – ان المسلمين قد نبذوه وجفوه ، وقد توفي هو وكثير عزة في يوم واحد فشهد الناس جنازة كثير ولم يشهدوا جنازته (18) .
ومع هذه الطعون التي احتفت به كيف يمكن الاعتماد على روايته والوثوق بها وقد اعتمد عليه البخاري وتجنبه مسلم (19) قال البخاري :
ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة (20) ومن الغريب أن البخاري يعتمد في رواياته على عكرمة وأمثاله من المطعونين في دينهم ، ويتحرج من رواية العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم .
مقاتل بن سليمان :
أما مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني ، فهو كصاحبه عكرمة كان متهما في دينه ، وذكر المترجمون له ما يلي :
1 – إنه كان كذابا ، قال النسائي : كان مقاتل يكذب (21) وكذلك قال وكيع : وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي : أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم نظير – يعني في البدعة والكذب – : جهم ومقاتل ، وعمر بن صبح ، وقال خارجة بن مصعب : كان جهم ومقاتل عندنا فاسقين فاجرين (22) ومع اتهامه بالكذب لا يصح الاعتماد على روايته ، ويسقط حديثه عن الاستدلال به .
2 – إنه كان متهما في دينه ، وكان يقول بالتشبيه ، قال ابن حبان :
كان مقاتل يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم ، وكان مشبها يشبه الرب سبحانه بالمخلوقين وكان يكذب في الحديث (23) وقد استحل بعض الأخيار دمه يقول خارجة : لم استحل دم يهودي ولا ذمي ، ولو قدرت على مقاتل بن سليمان في موضع لا يرانا فيه أحد لقتلته (24) .
3 – عرف مقاتل بالنصب والعداء لأمير المؤمنين ( ع ) وكان دأبه صرف فضائل الإمام ( ع ) وقد أثر عن الامام أنه كان يقول : ” سلوني قبل أن تفقدوني ” فأراد مقاتل أن يجاريه في ذلك فكان يقول : ” سلوني عما دون العرش ” فقام إليه رجل فقال له : أخبرني عن النملة أين أمعاؤها فسكت ولم يطق جوابا (25) وقال مرة : سلوني عما دون العرش فقام إليه رجل فقال له : أخبرني من حلق رأس آدم حين حج ؟ فحار ولم يطق جوابا (26) .
وهذه البوادر تدل على فساد آرائه ، وعدم التعويل على أي حديث من أحاديثه .
وهن استدلالهما :
واستدل عكرمة ومقاتل بسياق الآية على أنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وآله ولا تشمل أهل بيته ، وقد عرض الامام شرف الدين بصورة موضوعية إلى ابطال ذلك ، قال رحمه الله : ولنا في رده وجوه :
” الأول ” : إنه اجتهاد في مقابل النصوص الصريحة ، والأحاديث المتواترة الصحيحة .
” الثاني ” : إنها لو كانت خاصة في النساء – كما لا يزعم هؤلاء – لكان الخطاب في الآية بما يصلح للإناث ، ولقال عز من قائل : عنكن ويطهركن ، كما في غيرهما في آياتهن ، فتذكير ضمير الخطاب فيها دون غيرها من آيات النساء كاف في رد تضليلهم .
” الثالث ” : إن الكلام البليغ يدخله الاستطراد والاعتراض وهو تخلل الجملة الأجنبية بين الكلام المتناسق ، كقوله تعالى في حكاية خطاب العزيز لزوجته إذ يقول لها : ” إنه من كيدكن ان كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك ” فقوله : ” يوسف أعرض عن هذا ” مستطرد بين خطابيه معها – كما ترى – ومثله قوله تعالى : ” ان الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون واني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون ” فقوله : ” وكذلك يفعلون ” مستطرد من جهة الله تعالى بين كلام بلقيس ، ونحوه قوله عز من قائل :
” فلا أقسم بمواقع النجوم . وإنه لقسم لو تعلمون عظيم . وإنه لقرآن كريم ” تقديره أفلا أقسم بمواقع النجوم . إنه لقرآن كريم ، وما بينهما استطراد على استطراد وهذا كثير في الكتاب والسنة وكلام العرب وغيرهم من البلغاء .
وآية التطهير من هذا القبيل جاءت مستطردة بين آيات النساء ، فتبين بسبب استطرادها أن خطاب الله لهن بتلك الأوامر والنواهي والنصائح والآداب لم يكن إلا لعناية الله تعالى بأهل البيت ” أعني الخمسة ” لئلا ينالهم ” ولو من جهتهن ” لوم أو ينسب إليهم ” ولو بواسطة ” هناة أو يكون عليهم للمنافقين ” ولو بسببهن ” سبيل ولولا هذا الاستطراد ما حصلت النكتة الشريفة التي عظمت بها بلاغة الذكر الحكيم ، وكمل اعجازه الباهر كما لا يخفى (27) . ورأى الامام شرف الدين رأي وثيق فقد قطع به تأويل المتأولين ، ودحض به أو هام المعاندين ، وتمت به الحجة على المناوئين .
دلالتها على العصمة :
ودلت الآية بوضوح على عصمة الخمسة من أهل البيت ( ع ) فقد أذهب تعالى عنهم الرجس – أي المعاصي – وطهرهم منها تطهيرا وهذا هو واقع العصمة وحقيقتها .
وقد تصدرت الآية للدلالة على ذلك بكلمة ” إنما ” التي هي من أقوى أدوات الحصر ، ويضاف إليه دخول اللام في الكلام الخبري ، وتكرار لفظ الطهارة ، وكل ذلك يدل – بحسب الصناعة – على الحصر والاختصاص وإرادة الله في ذلك إرادة تكوينية يستحيل فيها تخلف المراد عن الإرادة ” إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ” .
ويقول الامام شرف الدين : إنها دلت بالالتزام على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام لأنه ادعى الخلافة لنفسه ، وادعاها له الحسنان وفاطمة ، ولا يكونون كاذبين ، لان الكذب من الرجس الذي أذهبه الله عنهم ، وطهرهم منه تطهيرا (28) .
الهوامش
( 1 ) سورة الأحزاب آية 22 .
( 2 ) تفسير الفخر 6 / 783 ، النيسابوري في تفسير سورة الأحزاب صحيح مسلم 2 / 331 ، ما نزل من القرآن في أهل البيت ( ص 41 ) ، من المخطوطات المصورة في مكتبة الإمام الحكيم نقلت من الخزانة المستنصرية سنة ( 666 ه ) تأليف الحسين بن الحكم الخنزي ، الخصائص الكبرى 2 / 264 ، الرياض النضرة 2 / 188 ، خصائص النسائي ، تفسير ابن جرير 22 / 5 ، مسند أحمد بن حنبل 4 / 107 ، سنن البيهقي 2 / 150 مشكل الآثار 1 / 334 . وقد أورد جلال الدين السيوطي في ( الدر المنثور ) عشرين رواية من طرق مختلفة في اختصاص الآية بأهل البيت ، وأورد ابن جرير في تفسيره خمس عشرة رواية بأسانيد مختلفة في قصر الآية عليهم بالخصوص .
( 3 ) مستدرك الحاكم 2 / 416 ، أسد الغابة 5 / 521 .
( 4 ) الدر المنثور 5 / 199 .
( 5 ) مجمع الزوائد 9 / 169 ، أنساب الأشراف ج 1 ق 1 ص 157 .
( 6 ) ذخائر العقبى ( ص 24 ) .
( 7 ) مستدرك الحاكم 3 / 172 .
( 8 ) القاموس المحيط 1 / 331 ، أقرب الموارد .
( 9 ) تفسير ابن كثير 3 / 486 ، صحيح مسلم 2 / 238 .
( 10 ) أسباب النزول للواحدي ( ص 268 )
( 11 ) الدر المنثور 5 / 198 .
( 12 ) تهذيب التهذيب 7 / 263
( 13 ) ميزان الاعتدال 3 / 95 ، طبقات القراء 1 / 15 ، طبقات ابن سعد 5 / 216 .
( 14 ) ميزان الاعتدال 3 / 95 .
( 15 ) ميزان الاعتدال 3 / 96 .
( 16 ) معجم الأدباء .
( 17 ) تهذيب التهذيب 7 / 263 .
( 18 ) تهذيب التهذيب 7 / 271
( 19 ) ميزان الاعتدال 3 / 93 .
( 20 ) تهذيب التهذيب 7 / 271 .
( 21 ) ميزان الاعتدال 4 / 173 .
( 22 ) تهذيب التهذيب 10 / 281
( 23 ) تهذيب التهذيب 10 / 284 ، ميزان الاعتدال 4 / 175
( 24 ) تهذيب التهذيب 10 / 281
( 25 ) تهذيب التهذيب 10 / 283
( 26 ) وفيات الأعيان .
( 27 ) الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء ( ع ) ( ص 196 – 197 ) .
( 28 ) الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء ( ع ) ( ص 201 ) .
المصدر: حياة الإمام الحسين(ع) / ج1 / الشيخ باقر شريف القرشي