سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (النحل: 41-42).
صدق الله العليّ العظيم
منذ بداية البعثة الشريفة، تعرّض النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم للمضايقات الشديدة من قِبل المشركين الذين رفضوا دعوته الإسلاميّة، فضيّقوا الخِناق عليه وعلى أهل بيته وأصحابه وأتباعه، إلى أن كان القرار بمغادرة مكّة، والهجرة إلى أماكن آمنة، في سبيل حفظ هذه الدعوة والرسالة.
فما هي الظروف التي أحاطت بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه في مكّة؟ وإلى أين كانت الهجرة؟ وماذا أفرزت تلك الهجرة من نتائج؟
* التضييق على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة
وصل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة، وبعد عشر سنوات من الدعوة العلنيّة، إلى قناعةٍ أنّ مكّة لم يعد فيها أيّ فرصة لتبليغ الإسلام والدعوة الإلهيّة، وذلك بعد منعه صلى الله عليه وآله وسلم من التكلّم مع أحد، وملاحقة كلّ من هو على تواصل معه، وتعريضه للضرب والإهانة والتعذيب. لذا، أصبحت فرص حركة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شبه معدومة. فالمؤمنون الذين آمنوا به؛ أي المؤمنون الأوائل في مكّة من صحابته صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا ما بين مُهجّرٍ، ومُشرّدٍ، ومُستضعَف، ومُهدّد بالقتل، وعددهم متواضع، وأغلبهم بدأ بالخروج من مكّة.
وقد فَقَد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، في سنةٍ واحدة، من حماته حاميَيْن مهمّين جدّاً، هما: أبو طالب (رضوان الله عليه)، وهو عمّه الذي حماه ودافع عنه ومنع عنه قريش، وعدوانها، وسفاهتها، وزوجه، أمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد (رضوان الله عليها)، فكانت خسارة كبيرة لحركة الدعوة النبويّة.
* الانتقال إلى يثرب
من حيث الظروف والشروط والأوضاع والأحداث، بدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يفكّر جديّاً في البديل عن مكّة. فطَرَق صلى الله عليه وآله وسلم أبواب مدينة الطائف [مدينة في الحجاز بالقرب من مكّة] طالباً من أهلها النصرة والحماية والعون، فرفضوه وآذوه وسلّطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم ليرشقوه بالحجارة. أمّا البديل الآخر الذي توفّر فهو مدينة يثرب [والتي أصبحت فيما بعد المدينة المنوّرة. وعندما نقول المدينة نعني بها مدينة يثرب]. وأهل يثرب أغلبهم كانوا من الأوس والخزرج [قبيلتان يمنيّتان]، وبمعنى آخر، إنّ قريش الحجازيّة القرشيّة فعلت ما فعلت بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومن آمن به، والمدينة اليمنيّة -إن صحّ التعبير- بأهلها وسكّانها هي التي بادرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآمنت بدينه، وبنبوّته، وبدعوته، وبايعته على الطاعة، والحفظ، والصَون، والعَون، والنصرة، وثبّتت بيعتها على مرحلتين، وقدّمت مواثيقها كلّها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
على كلّ حال، النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحفّز للذهاب إلى البديل؛ أي المدينة، ممّا جعل قريشاً تستعجل قراراً كانت تتردّد في اتّخاذه. [وعندما نقول قريشاً يعني أبا سفيان وأبا جهل وأميّة بن خلف، وغيرهم. كما إنّ بني هاشم، وبني أميّة، وبني مخزوم… كانوا من قريش أيضاً]. فقريش هي عبارة عن اسم كبير لمجموعة قبائل لها زعماؤها، يشكّلون عِلية القوم وأصحاب القرار فيها.
* اتّخاذ القرار بقتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
إذاً، كانوا متردّدين في قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفكرة لم تكن جديدة، إذ إنّها كانت موجودةً منذ ما قبل سنة الهجرة، لكنّهم كانوا متردّدين وخائفين من ردّ فعل بني هاشم، وأبي طالب (رض)، الذي سيكون عنيفاً وقاسياً جدّاً. وبالنسبة إليهم، إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما زال في قبضتهم، والأمور ما زالت تحت السيطرة وبالإمكان قتله وقتل أصحابه، ساعة يشاؤون.
لذا، كان توفّر البديل في المدينة، وهذا الأمر لم يكن مخفيّاً؛ لأنّه كان في المدينة مَن يتعاطف مع قريش في بدايات حركة النفاق، وأيضاً كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يغادرون مكّة إلى المدينة، وقريش كانت تعلم أنّهم ذاهبون إلى هناك، وأنّ فيها من يستقبلهم ويؤويهم، ويقدّم لهم المسكن والمال والحماية؛ وهنا، استشعرت قريش الخطر.
فبنظر قريش، إذا سمحت لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج والوصول إلى المدينة، فستكون أمام مرحلةٍ تاريخيّة جديدة وخطرة، لذلك حسمت أمرها، خاصّةً في ظلّ انتهاء مجموعة عوامل منها: وفاة أبي طالب، وما عاناه الهاشميّون (بنو هاشم) في شِعاب مكّة، وخروج أغلب صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة قبل هجرته صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يبقَ مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا القليل، فكانت فرصةً لهم للبطش به وقتله.
* إعداد خطّة القتل
ومع ذلك، حبكوا العمليّة بشكلٍ متقن، وعن ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ﴾ (الأنفال: 30). إنّ ما قاموا به يُعتبر مكراً، وكانت خطّةً متقنةً ومُحكَمةً: بأن يأتوا من كلّ عشيرة أو قبيلة بشاب ليشتركوا في قتله جميعاً. وهنا علينا ملاحظة ما يلي:
أوّلاً: القاتل لا ينتمي إلى قبيلةٍ واحدةٍ، وإنّما إلى عشر قبائل.
ثانياً: على القاتل أن يكون شابّاً مميّزاً في قبيلته، وعند أهله، وفي مقتبل العمر، فيتمسّكون به ولا يعطونه لبني هاشم، فتجري المصالحات عندها.
وعمليّة الاغتيال المُخطّط لها هي بين الطلوعين أو قبيل طلوع الشمس، فيذهبون في الليل حتّى يمنعوا أحداً من الدخول إلى بيت النبيّ أو الخروج منه، ويدخلون عليه دفعةً واحدة، ويضربونه ضربة رجل واحد، ليضيع دمه بين القبائل؛ كي لا يُقال إنّ سيف العشيرة الفلانيّة وصل إلى جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل سيف العشيرة الفلانيّة، فتتحمّل مسؤوليّة منفردة مثلاً. لاحظوا كم كان الموضوع متقناً.
* تدخّلٌ إلهيّ لحماية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
هنا، أطلعَ الله سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم على خطّة قريش، وأمره بالخروج من مكّة. وبما أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أصبح لديه علم بموضوع الاغتيال، فوجب عليه التفكير للقيام بساترٍ كي يحمي نفسه. ويُقال إنّه عندما طلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عليّ عليه السلام أن يبيت في فراشه، قال له: “أوَتسلم بمبيتي هناك، يا نبيّ الله؟ قال: نعم، فتبسّم عليّ عليه السلام ضاحكاً، وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً بما أنبأه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سلامته”(1).
تقول الروايات إنّه عندما بات الأمير عليه السلام في فراش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كان يتقلّب يميناً وشمالاً، ويُقال في السيرة: كمن يتضوّر، وذلك ليعطي الإيحاء أنّ هناك من هو نائم على هذا الفراش، وليأخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الوقت الكافي للخروج من مكّة: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30).
إذاً، عندما دخلوا بين الطلوعَين، وتقدّموا إلى الأمام، كشفوا الغطاء، فقام عليّ عليه السلام عن الفراش، وأخذ سيف أحدهم ورماه أرضاً وصرخ فيهم، فعرفوا أنّه عليّ! هنا انتهى الموضوع بالنسبة إليهم؛ لأنّهم لا يريدون قتل عليّ، بل قتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
عند هذه الحادثة، كان القرار بالخروج من مكّة، وكانت الهجرة.
* عناصر الهجرة النبويّة
ثمّة ثلاثة عناصر جوهريّة في هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهي:
أوّلاً: إنّ قريشاً اتّخذت قراراً بقتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة.
ثانياً: إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المدينة؛ لأنّها البديل الوحيد المتاح المناسب، خاصّةً أنّها هي التي أرادته، وقبلته، ودعته؛ أي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرض نفسه على المدينة، ولا على أهلها، وهذا له علاقة بالأدب، وبأخلاقيّات الحركة الإسلاميّة، وبالنبوّات.
ثالثاً: القرار الإلهيّ بأن يخرج النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حيّاً، وأن يبقى على قيد الحياة من أجل إبلاغ الرسالة وإكمال الدين؛ لأنّ الدعوة كانت لا تزال في منتصف الطريق، ولأجل تحقيق المشروع الإلهيّ الذي يُشكّل النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمَ النبيّين فيه.
* المسؤوليّة الرساليّة
وعلى كلّ حال، من يريد أن يتكلّم هنا عن الشهادة وعشق الشهادة، ففي تلك الليلة كان هناك عشّاق للشهادة، ولكنّ الحاكم كان الأداء والتكليف، وهو تحمّل المسؤوليّة الرساليّة. وفي نهاية المطاف، وصل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهدافه.
* من كلمة لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في الليلة الأولى من محرّم 10/9/2018م.
(1) الأمالي، الطوسيّ، ص465.