ارتبط الموقف الإنساني للحزب بموقفه العملي المقاوم، ففتح جبهة من الشمال، وأبقى الأبواب مفتوحة على كل الاحتمالات في الأيام المقبلة، ما يعني أنه تجاوز بتفرد مواقف الأنظمة العربية الخجولة، وموقف الغرب المنافق في آن واحد.
أطل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يوم الجمعة الفائت ليجيب عن تساؤلات كانت حتى تلك الساعة موضع تحليلات لم تستند في الواقع إلا إلى تكنهات أصحابها.
ليس تفصيلاً أن يقول السيد نصر الله إن عملية “طوفان الأقصى” جاءت بقرار وتنفيذ فلسطينيين، ولم يشارك الحزب في أي تخطيط أو تنفيذ، كما أنها نُفذت بسرية كاملة، وهي معركة فلسطينية، ولا علاقة لها بأي ملف إقليمي.
في هذا الكلام وضع للنقاط على الحروف، وإجابة لمن تساءل إن كان حزب الله على علم بما حدث. وفي ذلك إجابة أيضاً عمن أراد تقزيم العملية، ومن ورائها القضية، وربطها بمسار تطبيع هنا أو هناك. من قال إن القطاع المحاصر منذ 17 عاماً يقع ضمن حسابات من هو ساعٍ للتطبيع؟ بعد كلام الأمين العام لحزب الله، يمكن القول: شكراً لحزب الله على مستويات ثلاثة.
على الصعيد الدولي
تحتاج الذاكرة الإنسانية إلى أحداث قاسية أحياناً لإنعاشها. على سبيل المثال، أعادت الحرب الروسية الأوكرانية إنعاش ذاكرتنا بأننا أمام غرب عنصري لا يكترث إلا إلى أبناء جلدته ومن كان يندرج ضمن محوره، ومحوره هو ذلك اللاحق بركب الولايات المتحدة الأميركية. أما العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فقد أنعش ذاكرتنا بأننا لسنا أمام غرب عنصري فقط، إنما أمام غرب منافق أيضاً، غالباً ما يستخدم شعارات الإنسانية وحقوق الإنسان لـ”حاجة في نفس يعقوب”.
هذا الغرب الذي أباح لـ”إسرائيل” ارتكاب جرائم الحرب على مدار 30 يوماً وأكثر تحت ذريعة “الدفاع على النفس” لم يحرك ساكناً رغم معرفته ورؤيته للمجازر المرتكبة يومياً في القطاع، حتى بتنا نسمع بمصطلاحات جديدة لا تصلح إلا لغزة.
على سبيل المثال، يتم اليوم تداول مختصر WCNSF wounded children no surviving family ، ما يعني بالعربية: “أطفال جرحى ولكن من دون عائلات”. ومع ذلك، لم تتلفّظ أي دولة “متحضرة” بضرورة “الوقف الفوري لإطلاق نار”. على العكس، يريدون للمأساة أن تستمر عبر هدن إنسانية مؤقتة هشة، وهذا ما أوضحته مجلة “ذي إكونومست” بصفاقة في مقال لها تحت عنوان “لماذا يجب على إسرائيل أن تقاتل؟”.
وقد خلصت إلى “أن وقف إطلاق النار يعد عدواً للسلام، لأن من شأنه أن يسمح لحماس بالاستمرار في حكم غزة بالتراضي أو بالقوة مع الحفاظ على أغلب أسلحتها ومقاتليها. والحال فإن التوقف لأسباب إنسانية هو الأقوى، ولكن حتى هذا الخيار ينطوي على مقايضة. ومن شأن التوقف المتكرر أن يزيد من احتمالات بقاء حماس”.
في المقلب الآخر، الأمر مختلف؛ ففي وقت انتظر كثيرون من حزب الله إعلان حرب إقليمية وتوسيع رقعة الاشتعال، مع أنه “وسّعها” منذ اليوم الأول، قال الأمين العام لحزب الله صراحة إن الهدف هو وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في الدرجة الأولى، وإن توسيع الحرب مرهون بالقرار الأميركي والإسرائيلي، ولكل قرار جديد مقتضى سيؤخذ بعين الاعتبار.
ارتبط الموقف الإنساني للحزب بموقفه العملي المقاوم، ففتح جبهة من الشمال، وأبقى الأبواب مفتوحة على كل الاحتمالات في الأيام المقبلة، ما يعني أنه تجاوز بتفرد مواقف الأنظمة العربية الخجولة، وموقف الغرب المنافق في آن واحد، والعين على الأيام المقبلة وموعد الظهور الثاني للسيد حسن نصر الله يوم السبت المقبل. وهنا نصل إلى النقطة الثانية.
على الصعيد الإقليمي
إقليمياً، كان يمكن أن نرى صور السيد حسن نصر الله في معظم الدول العربية لو أعلن دخول حزب الله الحرب الدائرة على نطاق أوسع، كما كانت الحال في حرب تموز 2006، ولكنه قرر ما لم يكن كثيرون يتمنونه؛ البعض بدافع الغضب والتعاطف والتضامن مع قطاع غزة، والبعض الآخر من شدة بغضهم لهذا القطاع بناسه ومقاومته ورغبتهم في استعار الحرب أكثر إلى حين التخلص من حركة حماس “الإخوانية”.
شكراً لحزب الله لأنه لم يختر الشعبوية التي يطرب لها الكثيرون، وهو التيار السائد في العالم. وإذا أردنا معرفة وقع الخطاب وما حمله من مضامين ورسائل، فعلينا قراءة ما يقوله الإسرائيلي (على سبيل المثال، يصف المحلل الإسرائيلي والمختص في شؤون الطيران نيتسان سادان السيد حسن نصر الله بالرجل الاستثنائي والمخيف)، لا ما يكتب في منصات التواصل الاجتماعي التي ساوت بين جاهل ومتعلم وبين عاقل وأهوج.
ومع ذلك، فإن مشاركة الحزب في عملية “طوفان الأقصى” لا يمكن تجاهلها. وقد تحدث السيد حسن نصر الله عن أهمية ونتائج جبهة الشمال “المساندة” للقطاع. والمساندة بالنار والدم لا يمكن مقارنتها مطلقاً بمساندة خطابية هنا وهناك، ولا يمكن مقارنتها بحملات إغاثية انطلقت، ولكننا نقرأ عنها ولا نراها، وتتكدس أرقامها ولا تصل إلى الغزاوي المكلوم.
لقد كان الحزب واضحاً بأن الصمود والتضحيات في صلب حروبنا، ولكن الانتصار هو الهدف الثاني، وحماس تحديداً كحركة مقاومة لا بد من أن تكون ضمن هذا التصنيف، ولا بد من أن تنتصر. والقول بانتصار غزة لم يأتِ على لسان أي من قادة العالم العربي الذين يستقبلون المسؤولين الإيرانيين كل يوم بابتسامة عريضة، ويبيحون لإعلامهم مهاجمتهم مع كل صباح ومساء.
على الصعيد الداخلي، رغم ارتفاع سقف توقعات البعض، فإن الواقعية تقول إن من عايش الحروب لا يستسيغ تكرارها إلا إذا فرضت عليه. من هنا لا يمكننا إلا أن نشعر بمدى الارتياح الشعبي للخطاب، بصرف النظر عن تلك الأصوات التي تعادي الحزب في السلم والحرب، وفي الداخل والخارج، وفي الصمت والكلام.
والشكر لحزب الله يتلخّص هنا بالتالي:
شكراً على الواقعية، فالخطاب، وإن حمل توضيحات لا تخلو من الغموض، إلا أنه كان واقعياً حد الحقيقة، “فمعركتنا لم تصل إلى مرحلة الانتصار بالضربة القاضية، لكننا ننتصر بالنقاط”.
شكراً على رفع المعنويات، لأن اللبنانيين ما قبل الخطاب ليسوا كما بعده، فالتركيز على معادلة المدني بـ”المدني” يجعل التهديدات بسيناريو “العصر الحجري” للبنان كمن يخطّ مشاريع في الرمال. وهنا، الكلام موجه إلى الإسرائيلي الذي لا يعرف سوى ارتكاب المحارق والإفلات من العقاب.
شكراً على تعزيز قوة الردع، وهذه المرة ليس لردع العدو الإسرائيلي، أي الوكيل، إنما لردع الأصيل، أي الأميركي وأساطيله. ولا شكّ في أن الرسالة وصلت إلى المعنيين.
شكراً على كشفك حقيقة ونيات من أراد للحزب ولبنان الانخراط الكلي في الحرب، ليتفرج على أشلائنا وليرسل لنا الأكفان والطعام الفاسد.
يقول عالم المستقبليات الأردني البروفسور وليد عبد الحي في منشور مقتضب له في الفيسبوك: “يا زعماء العرب، أناشدكم الله أن تخونوا فلسطين بنفس طريقة خيانة حزب الله لها”.
هذا هو بيت القصيد وانتهى!