إن الله تعالى قد قرّر في شريعته السَّمحاء أنّ رعاية حقوق النّاسِ واجتناب أذاهم أوّل شروط الدخول في الإسلام، وقد سمّى أتباعَ هذا الدّين “مسلمين” لهذه الميزة.
وروِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “سالِمِ النّاسَ تَسْلَمْ دُنْياكَ”
سالِم الناس، لا تُعادِهم، ولا تُؤْذِهم، تَسْلَم لك دنياك وأخراك، هذه معادلة يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع) الإلتزام بها كفيل بِجَلبِ الراحة والطمأنينة للفرد وللمجتمع، وحسبك قارئي الكريم ما قاله الله تعالى في وصف حال أهل الجنة:
“لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ﴿25﴾ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ﴿الواقعة/ 26﴾.
إنَّ أهل الجَنَّة يَحيَون في هدوء وطمأنينة، لا يعتدي أحد منهم على أحد، ولا يُعادي أحدٌ مِنهم أحداً، ولا يصدر أذىً من أحد على أحد، ويترفَّعون عن كل لغو، ويتنزَّهون عن كل إثم، حياتهم كلها سلام، يرفُّ عليها السَّلام، ويشيع فيها السَّلام، تُسَلِّم عليهم الملائكة في ذلك الجَوّ النَّاعِم الآمن المُطمئن، ويُسَلِّم بعضهم على بعض، ويَبلُغُهم السَّلام من الرحمن، فالجَوّ كله سلام سلام، وأمن وأمان، وَوِدٌ وإلفة، ووجوه باسمة، وقلوب صافية، ونفوس طيِّبة، فأيُّ حياة أطيب من تلك الحياة؟! وطيبتها ناشئة من السَّلام الذي يُشيع بين أهلها، بَرِئَت قلوبهم من الغِل والحِقد، وألسنتهم من اللَّغو والإثم، فطابت وهنئَت.
فهل في إمكان أهل الدنيا أن يجعلوا من حياتهم طيِّبة، ومن عيشهم آمناً مُطمئناً؟. نعم. ذلك ممكن بلا نقاش، شرط أن تصفو نفوسهم، وتسلم قلوبهم، وتُصان ألسنتهم، فيَسْلَمون وتَسلَم حياتهم.
رعاية حقوق الآخرين من أبرز الملامح الاسلامية
إن من أبرز ملامح الشخصية الإسلامية رعايتها لحقوق الآخرين، وودها وحبها الخير وسلمها لهم، وإشاعتها السَّلام معهم، واجتناب إيذائهم، وهذا المَلمح ضروري لها وواحد من أهم مكوناتها، بحيث لا يكون الفرد مُسلماً بدونه، وهذا ما قاله رسول الله (ص).
ورسول الله وحده الذي يقرِّر ملامح الشخصية الإسلامية، ووحده الذي يضع معايير السلوك الإسلامي، قال (ص): “أيُّهَا النّاسُ! إنَّ العَبدَ لا يُكتَبُ مِنَ المُسلِمينَ حَتّى يَسلَمَ النّاسُ مِن يَدِهِ ولِسانِهِ، ولا يَنالُ دَرَجَةَ المُؤمِنينَ حَتّى يَأمَنَ أخوهُ بَوائِقَهُ، وجارُهُ بَوادِرَهُ، ولا يُعَدُّ مِنَ المُتَّقينَ حَتّى يَدَعَ ما لا بَأسَ بِهِ حِذارَ ما بِهِ البَأسُ”
إنّ هذا التعريف النبوي الشريف للإنسان المسلم يوضّح أنّ الله تعالى قد قرّر في شريعته السَّمحاء أنّ رعاية حقوق النّاسِ واجتناب أذاهم أوّل شروط الدخول في الإسلام، وقد سمّى أتباعَ هذا الدّين “مسلمين” لهذه الميزة، فهم سِلمٌ لبعضهم، لا يؤذي أحد منهم أحداً، ولا يمكر أحد منهم بأحد، ولا يبغي أحدٌ منهم على أحد.
ولهذا أيضا قرَّر الله تعالى وهو الشارع المقدس أن تكون تحية الإسلام “السَّلامُ عليكم” وهي تحية ليس مثلها تحية بين أهل الأرض، تحية ذات دلالات رائعة ومعني سامية تلتقي كلها عند إرادة مُلقي التحية السلام لمتلَقّي التحية، فقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: “السَّلامُ تَحِيَّةٌ لِمِلَّتِنا، وأمانٌ لِذِمَّتِنا”
وحين نراجع الروايات الشريفة في هذا الشأن نجد التأكيد على أمرين اثنين:
الأول: إفشاء السلام في المجتمع، وإفشاء السلام لا يقتصر على إلقاء التحية، بل هو دعوة إلى إشاعة السِّلم والمحبة والتعاون في المجتمع، وفي ذلك الخير كل الخير، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله (ص) أنه قال: “أفشِ السَّلامَ يَكثُر خَيرُ بَيتِكَ” وجاء عنه (ص) أيضاً: “إنَّ السَّلامَ اسْمٌ مِنْ أسْماءِ اللَّهِ تعالى، فَأفشُوهُ بَينَكُم”.
الثاني: اجتناب العَداوة، لأن عواقبها على الفرد والمجتمع شديدة الخطورة، فهي تمحَق دين الفرد، وتجلب إليه الشقاء، وتمحَق أمان المجتمع وتجلب إليه العَناء، وما يدل على ضرورة اجتناب العداوة ما قاله رسول الله (ص): “ما عَهِدَ إلَيَّ جَبرَئيلُ عليه السلام في شَيءٍ ما عَهِدَ إلَيَّ في مُعاداةِ الرِّجالِ”.
وذكرت الروايات أن معاداة الناس تكشف عورات المَرء وعيوبه، وتجعله ذليلاً، وتذهب بعِزِّته وكرامته، وأوصى الإمام أمير المؤمنين (ع) بنيه فقال: “يا بَنِيَّ، إيّاكُم ومُعاداةَ الرِّجالِ، فإنَّهُم لا يَخلُونَ مِن ضَربَينِ: مِن عاقِلٍ يَمكُرُ بِكُم، أو جاهِلٍ يَعجَلُ عَلَيكُم” ومع هذه الآثار الخطيرة لا يقدم على معاداة الناس إلا الجاهل الأحمق.
وأختم هذه المقالة بما رُوِيَ عن الإمام زين العابدين (ع) “لا تُعادِيَنَّ أحَداً وإن ظَنَنتَ أنَّهُ لا يَضُرُّكَ، ولا تَزهَدَنَّ في صَداقَةِ أحَدٍ وإن ظَنَنتَ أ نَّهُ لا يَنفَعُكَ، فإنَّكَ لا تَدري مَتى تَرجُو صَديقَكَ، ولا تَدري مَتى تَخافُ عَدُوَّكَ”.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي