السيد حسن نصر الله
من أعظم المشاكل التي يواجهها الناس اليوم، وبالأخص جيل الشباب، هي حالة الاضطراب النفسي، والقلق، والإرتباك، التي توصل إلى الحيرة أو الضياع، ويحاول البعض أن يعالج هذه الأوضاع النفسية بأساليب خاطئة أو أساليب من نوع الخطيئة. في يومنا هذا، كل ما حول الإنسان يضغط عليه: البيئة، الوضع الاجتماعي، الأوضاع المعيشية، الفقر، الحاجة، المرض، عدم قدرة الإنسان على تلبية احتياجات العائلة وحتى الاحتياجات الشخصية التي باتت في هذا الزمان أكبر وأعظم بكثير من الأزمنة الماضية.
* هجمة إفساد مبرمجة
من الضغوط الكبيرة أيضاً ما يحيط بنا من هجمة فساد وإفساد لا مثيل لها في تاريخ البشرية. على مر التاريخ عمل شياطين الإنس والجن على نشر الفساد ليقطعوا طريق البشر ويمنعوهم من الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، ومن الوصول إلى سعادتهم وكمالهم في الدنيا وفي الآخرة. ومارس كذلك الطواغيت والنماردة والفراعنة الإفساد المبرمج والممنهج ليحموا من خلاله عروشهم وكراسيهم. ولكن، لم يمر على الأجيال طوال تاريخ البشرية ما يواجهه جيل اليوم من هجمة إفساد بالصورة وبالصوت وبالمكتوب وبالألوان وفي الشارع وفي السيارة وفي البيت وعلى حوافّ الطرقات وحيثما ذهب، مخاطبة حواسه وعقله وقلبه وبكل وسيلة.
هناك هجمة قوية وشرسة وهي بالتأكيد ليست عفوية. هناك من يخطط ومن يبرمج ومن يدير عملية الإفساد الواسعة في العالم. هناك من يريد للعالم أن يكون فاسداً، وغير إنساني، بل أن يكون حيوانياً. هناك من يريد للناس ألا يكونوا عقلانيين بل أن يكونوا شهوانيين، وهناك من يناسبه أن يكون الناس على هذه الشاكلة ليتمكن من أن يحكم العالم ، لأنه حينئذ لن يكون أمام بشرية واعية وعاقلة ذات إرادة وعزم، ولن يكون حينئذ أمام أناس تعني لهم الكرامة والحرية والعزة والشرف والعرض والآخرة شيئاً على الإطلاق. في بدايات القرن الماضي، بين النجف وكربلاء المدينتين المقدستين، كانت هناك منطقة تعيش فيها عشائر يغلب عليها عموماً طابع التدين والحفاظ على مسائل العرض والشرف والكرامة والعلاقات الاجتماعية المضبوطة والمحترمة، لوحظ في سنوات قليلة أن هناك ظاهرة بغاء بدأت تنتشر في هذه المنطقة، وظن بعض الناس للوهلة الأولى أن هذه نشأت هنا وهناك بالصدفة .. ولكن لأن هذه الظاهرة كانت تشكل صدمة لسكان تلك المنطقة اهتم بعض العلماء وبعض المحققين في معرفة الخلفيات. تصوروا أن بيتاً له ارتباط بجهة صهيونية كان يسكن في تلك المنطقة هو الذي كان يقف خلف انتشار حالة وظاهرة بغاء في منطقة عشائرية متدينة، في منطقة العتبات المقدسة، هل هذا يحصل بالصدفة؟ هل جاء هذا البيت، تاركاً كل بلدان العالم ليسكن بين تلك القرى بالصدفة؟ أم أن هذا شيء مخطط مسبقاً؟
* لا تفروا من الفساد إلى الفساد
بكل الأحوال، إذا أخذنا الموضوع المعيشي والاجتماعي والموضوع السياسي والأمني وموضوع الإفساد، كل هذا يشكل ضغطاً على جيل الشباب بالخصوص، لأن حاجاتهم تكون في ذروة النشاط وفي ذروة الحيوية. وبالتالي، البعض يفر من الشيطان إلى الشيطان، يفر من الفساد إلى الفساد، يعني في نهاية المطاف يستسلم.
البعض يحاول أن يواجه هذه الأوضاع بالتهرب من المسؤولية، فيلجأ إلى إدمان المخدرات والخمر أو القمار وسهر الليالي الطويلة في النوادي الحمراء، فيصبح إنساناً لا مبالياً اتجاه نفسه واتجاه عائلته واتجاه مجتمعه. البعض يقدم على الانتحار. البعض يلجأ إلى الجريمة والقتل والعصابات والمافيات والسرقة واللصوصية وما شاكل. اللجوء إلى هذا النوع من المعالجات في الحقيقة يزيد في تدمير المجتمع والعائلة، وهو أشبه بمن يحاول أن يرمي على النار وقوداً لتزداد اشتعالاً، بدل من إن يرمي عليها ماء ليطفئها. في ظل هذه الأجواء التي نعيشها، يجب أن نواجه هذه الاستحقاقات بمسؤولية وبجدية، لأن المسألة هنا لا تقف عند النتائج الدنيوية.
إن الموضوع في نهاية المطاف لا يقف عند حدود هذه الدنيا التي يعيش فيها الناس وتنتهي القصة، فليقتل من يقتل، ولينتحر من ينتحر، وليتألم من يتألم، وليدمن من يدمن، ولتجتح جيوش شعوباً، ولتعش الأرض ظلماً واستكباراً واستعباداً وطغياناً، ولا مشكلة. بل إن هذه الدنيا أصلاً هي دنيا منقضية والمسألة تتعدى المسؤولية في الدنيا إلى الآخرة، إلى يوم الوقوف الطويل بين يدي الله سبحانه وتعالى الذي سيسأل كل واحد منا، كل فرد منا عن حياته وسلوكه وأقواله وأفعاله وأدائه ومسؤولياته في الدنيا. ماذا فعل؟ ماذا قال؟ كيف عاش؟ كيف واجه المسائل والتحديات؟ علاقته مع نفسه، مع عائلته، مع جيرانه، مع محيطه، في السلم وفي الحرب، في التحديات وفي الأخطار. وبالتالي، هناك مسؤولية كبيرة. ليس الحل أن تهرب إلى المخدرات، وإلى الخمر، وإلى الانتحار. بعض المساكين يتصوَّر أنه عندما يلجأ إلى الانتحار يرتاح بهذه الوسيلة. من قال إنه ارتاح؟. إن كل ما يمكن أن يعيشه الإنسان من آلام وأحزان في هذه الدنيا لا يقاس ولا يساوي شيئاً أمام عذاب الله وسخطه وغضبه، الذي يطال العاصين والمنحرفين والخاطئين والمذنبين.
* الحل في اللجوء إلى الله تعالى
أهم ما في الدين هو أنه يعطينا، حتى في أشد الظروف والأوضاع الصعبة، الطمأنينة وهدوء النفس والاستقرار والسكينة والأمل والرجاء. ولا يوجد شيء في هذا الوجود يمكنه أن يمنح الإنسان هذا المستوى في مواجهة المشاكل و الصعوبات و المآسي و الأحزان. الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. أياً تكن المأساة والأحزان والمعاناة التي تعيشها بسبب ظروف شخصية أو اجتماعية أو سياسية أو أمنية أو تهديدات أو جوع أو فقر أو، أو ..
عندما تلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، عندما تذكر الله سبحانه وتعالى وتعود إلى الله عز وجل، عندما تجلس بين يدي الله سبحانه وتعالى لمناجاته ولدعائه، يمكنك أن تحدثه عن كل آلامك ومعاناتك وصعوباتك وأحزانك ومآسيك . وهنا، أنت لا تتكلم مع فقير مثلك، حين تقول له أنا فقير، يقول لك: أنا فقير مثلك،.. أنت لا تشكو إلى مثيل لك ولا حتى إلى قادر أو غني محدود القدرة ومحدود الغنى، أنت تشكو إلى الله سبحانه وتعالى، وتتحدث مع الله سبحانه وتعالى، وتلجأ إلى الله سبحانه وتعالى الغني القادر العالم الذي يعلم ما في أنفسنا، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، والقادر الكريم، لأنه يوجد قادر ممكن ألا يساعدك، والغني الجواد لأنه ممكن أن يكون هناك غني ولا يمد لك يد العون. أنت تتكلم مع من بيده ملكوت السماوات والأرض، تناجيه وتلجأ إليه. هذا اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، أولى نتائجه السريعة الهدوء والطمأنينة والسكينة. مهما فتشتم في علم النفس التربوي والاجتماعي ولدى أطباء النفس وغيرهم فلن تجدوا هذا العلاج عند أحد، ولكنكم ستجدون العلاج عند محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وفي آيات الله التي أنزلت على قلبه الشريف، وفي الآيات الكريمة: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة: 155)، كيف نواجه هذا النقص وهذا البلاء وهذه المحنة في الأموال، في الأنفس، في الثروات؟! “إنا لله” ليست مجرد كلمة تقال؛ “إنا لله” تعني نحن ملكه، ونحن عبيده، ونحن ملك يمينه. نواصينا بيده، يفعل بنا ما يشاء. “إنا لله وإنا إليه راجعون” فعندما نكون عبيداً له، نرضى بما يرضاه لنا، نرضى ونهدأ ونطلب منه أن يعيننا، وأن يدفع عنا البلاء، وأن يرفع عنا الامتحان، وأن يعطينا الصبر والثبات والنجاح والنصر والعزة. “وإنا إليه راجعون” تقول لنا إن هذه الحياة التي نعيشها هي حياة محدودة، وبالتالي، لا تستحق أن تضيع آخرتك من أجل بعض المحن وبعض الصعوبات وبعض الأحزان في الدنيا، فترتكب المعاصي والذنوب وتفر إلى الشيطان.
* الدواء في بيوت الله
المساجد، هذه المؤسسات العبادية الإيمانية التربوية هي شفاء للناس و هي حاجة روحية ونفسية واجتماعية وأخلاقية، هي حاجة جهادية وسياسية وأمنية أيضا؛ في بيوت الله عز وجل، نقرأ القرآن ونستمع إلى الوعظ والإرشاد ونتعرف على حقائق الوجود، فنفهم معنى الدنيا ومعنى الآخرة، ومعنى الامتحان ومعنى البلاء، ومعنى الصبر ومعنى تحمل المسؤولية. في بيوت الله عز وجل، نشحذ الهمم والعزائم والإرادات؛ في بيوت الله عز وجل، نحمل روح الإنسانية ونجسِّدها ونعمِّقها في أرواحنا وفي أنفسنا. في بيوت الله عز وجل، نداوي قلوبنا وجروح أنفسنا التي تطالها السهام من كل حدب وصوب، وبالدرجة الأولى نحصل على هذا الهدوء وعلى هذه الطمأنينة. في الدين وفي بيوت الله يتحصل لنا الأمل .
نعم، الدين والنبي وآيات القرآن هي القادرة على أن تمنح هذا الأمل. الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه قبل خمسين سنة أو ستين سنة، كان يقول للشاه: كلما عمرنا في قرية أو في مدينة مسجداً يمكنكم أن تقللوا عدد المخافر وعدد الدرك وعدد قوى الأمن، لماذا؟ لأنه عندما تتربى الناس على التدين، سيشكل ذلك حاجزاً ذاتياً ورادعاً ذاتياً عن القتل، والسرقة، والغش، والظلم، والتجسس على الآخرين، وإيذاء الآخرين. المسؤولية في هذه المرحلة الصعبة والخطرة هي أن نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، أن نتمسك بديننا وثقافتنا وقيمنا، أن نثق بالله سبحانه وتعالى، أن نعرف أن أمامنا آمالاً كبيرة نحن قادرون على تحقيقها، أن نستعين بثقافتنا وتعاليمنا وقيمنا لنكون من أصحاب الأنفس المطمئنة الواثقة الشجاعة المريدة العازمة. وأنا أقول لكم: نعم، نحن قادرون على تجاوز كل هذه الأخطار إذا تحمّلنا المسؤولية وكنا أصحاب الوعي وأصحاب الأمل، وكنا أولاً وآخراً من اللاجئين إلى الله، مستعيذين به في مواجهة الشيطان، مستعينين به على مواجهة التحديات.
*مقتطف من كلمة لسماحة السيد حسن نصر الله في حفل افتتاح مجمع الإمام الباقر عليه السلام في 24/2/2003.